الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال السّدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع، قالوا: آمنّا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلّفوا
(1)
.
المناسبة:
بعد أن حث الله تعالى على التقوى، قالت الأعراب: لنا النسب الشريف، فلنا الشرف، فذمّهم الله تعالى، وأبان ضعف إيمانهم، وحدد أصول الإيمان الصحيح: وهي التصديق بالله ورسوله، والإخلاص في القلب، والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله وطاعته وإعلاء دينه، وأخبر بأن الله يعلم ما في السرائر والعلانية، فيعلم ما هم عليه من ضعف الإيمان وقوته، وأفاد بأنه لا ينبغي لمؤمن أن يمتن على الرسول صلى الله عليه وسلم بإيمانه، بل الله يمن عليه بتوفيقه للهداية على يد رسوله صلى الله عليه وسلم.
التفسير والبيان:
{قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي قالت جماعة من سكان البادية وهم بنو أسد أول ما دخلوا الإسلام مدعين لأنفسهم مقام الإيمان: صدقنا بالله ورسوله وتمكن الإيمان في قلوبنا، فرد الله تعالى عليهم مبينا لهم أنهم لم يؤمنوا الإيمان الكامل، ولم يصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة وثقة تامة بالله عز وجل، وأمرهم بأن يقولوا: انقدنا لك يا رسول الله واستسلمنا، وسالمناك فلا نحاربك. وأعلمهم بأنه لن يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد، بل كان مجرد قول باللسان، دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة، لذا جاء النفي ب {لَمّا} حرف الجزم الدال على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار. وقوله:{لَمْ تُؤْمِنُوا} لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي، بل متصلا بزمان الإخبار أيضا.
(1)
تفسير القرطبي: 348/ 16
وقد دلت الآية الكريمة على أن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه السلام حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب، فهو تصديق القلب مع الطمأنينة والثقة بالله، والإسلام أعم، فهو مجرد نطق باللسان بالشهادتين وإظهار الانقياد والخضوع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا لا يمنع أن المؤمن والمسلم واحد عند بعض أهل السنة
(1)
، بدليل قوله تعالى عن لوط عليه السلام ومن آمن معه:{فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات 35/ 51 - 36].
ثم حرضهم الله تعالى على الإيمان الصادق بقوله:
{وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي وإن تطيعوا الله ورسوله إطاعة تامة، وتخلصوا العمل وتصدقوا تصديقا صحيحا، لا ينقصكم من أجور أعمالكم شيئا، فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص، والله تعالى غفور ستار لمن تاب إليه وأناب وأخلص العمل، رحيم به فلا يعذبه بعد التوبة. وفيه حث على التوبة من الأعمال السالفة، وتسلية لقلوب من تأخر إيمانه، فالله تعالى يغفر لكم في كل وقت ما قد سلف، ويرحمكم بما أتيتم به.
ونظير الآية: {وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور 21/ 52].
ثم أبان الله تعالى صفات المؤمنين وحقيقة الإيمان بقوله:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} أي إنما المؤمنون إيمانا صحيحا خالصا وهم المؤمنون الكمّل هم الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم تصديقا
(1)
تفسير الرازي: 141/ 28
تاما بالقلب، وإقرارا باللسان، ثم لم يشكّوا ولم يتزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، وجاهدوا بالأموال والأنفس حق الجهاد، من أجل طاعة الله وابتغاء مرضاته، قاصدين بجهادهم إعلاء كلمة الله ودينه، أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة هم الصادقون بالاتصاف بصفة الإيمان، والدخول في عداد المؤمنين، لا كبعض الأعراب الذين أظهروا الإسلام، ولم يطمئن الإيمان في قلوبهم.
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذي يأمنه الناس على أموالهم بأنفسهم، والذي إذا أشرف على طمع تركه الله عز وجل» .
ثم عرفهم الله تعالى بأنه عالم بحقيقة أمرهم قائلا:
{قُلْ: أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ؟ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قل لهم أيها الرسول: أتخبرون الله بما في ضمائركم من الدين، ليعلم بذلك حيث قلتم: آمنا؟ والله عالم لا يخفى عليه شيء، يعلم كل ما في السموات وما في الأرض من جمادات ونباتات وحيوانات وإنس وجن، فكيف يجهل حقيقة ما تدّعونه من الإيمان؟ والله لا تخفى عليه خافية من ذلك، يعلم بكل شيء، فاحذروا أن تدّعوا شيئا خلاف ما في قلوبكم.
وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون لله، وأنتم أظهرتموه لنا، لا لله، فلا يقبل ذلك منكم.
ثم أوضح الله تعالى أن إسلامهم لم يكن لله، فقال:
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} أي يعدّون إسلامهم منّة ونعمة عليك أيها