الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والشر، فملك اليمين يكتب الخير، وهو أمير على كاتب السيئات، وملك الشمال يكتب الشر {سَكْرَةُ الْمَوْتِ} شدته التي تذهب بالعقل {بِالْحَقِّ} بحقيقة الأمر {ذلِكَ} الموت {ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} تهرب وتفزع وتميل عنه، والخطاب للإنسان.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} أي نفخة البعث {ذلِكَ} النفخ {يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي يوم إنجاز الوعيد وتحققه للكفار بالعذاب {وَجاءَتْ} فيه {كُلُّ نَفْسٍ} إلى المحشر {سائِقٌ وَشَهِيدٌ} ملكان أحدهما يسوقها إلى أمر الله، والآخر يشهد على النفس بعملها.
{لَقَدْ كُنْتَ} في الدنيا {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا} الذي ينزل بك {غِطاءَكَ} الغطاء الحاجب لأمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في ملذات الدنيا {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} حادّ نافذ تدرك به ما أنكرته في الدنيا.
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى الأدلة الساطعة على إمكان البعث في الآفاق والأنفس، شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم الله تعالى، وعظيم قدرته على بدئه وإعادته. ثم أخبر عن انكشاف الحقيقة بالموت، وإتيان ملكين بكل نفس يوم القيامة للسوق إلى المحشر والشهادة عليها، ورفع حجاب الغفلة عن كل إنسان، وإدراكه أحوال المعاد والحشر.
التفسير والبيان:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} أي تالله لقد أوجدنا الإنسان (وهو اسم جنس) ونعلم بجميع أموره، حتى ما يختلج في سره وقلبه وضميره من الخير والشر، ونحن أقرب إليه من حبل وريده، فكيف يخفى علينا شيء مما في قلبه، فقوله:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} معناه أن الله تعالى لا يحجب عنه شيء، وقال ابن كثير: يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده.
فهذا إخبار من الله تعالى بأنه خلق الإنسان، وأن علمه محيط بجميع أموره،
حتى ما يجول في خاطره، وحتى حديث النفس، وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله. لكن لا عقاب على حديث النفس،
لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به»
(1)
.
والآية لإقامة الحجج على الكفار في إنكارهم البعث.
ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه بما في قلب ابن آدم وكّل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله، إلزاما للحجة، فقال:
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ} أي ونحن أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به وما يعمل به، فيأخذان ذلك ويثبتانه، عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، والقعيد: من يقعد معك. فملك اليمين يكتب الحسنات، وملك الشمال يكتب السيئات.
جاء في الحديث عن أبي أمامة: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات، لعله يسبّح أو يستغفر» .
(2)
.
{ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي ما يتكلم ابن آدم من كلمة إلا ولها من يرقبها، وهو حاضر معدّ لذلك، يكتبها، لا يترك كلمة
(1)
أخرجه أصحاب الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) عن أبي هريرة، وأخرجه الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2)
ذكره الزمخشري والقرطبي والبيضاوي، وروى ابن أبي حاتم عن الأحنف بن قيس مثل ذلك، فقال: صاحب اليمين يكتب الخير، وهو أمين على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له: أمسك، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها، وإن أبى كتبها.
ولا حركة، كما قال تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ} [الانفطار 10/ 82 - 12]. والرقيب: المتبع للأمور، والحافظ لها، والعتيد: الحاضر الذي لا يغيب والمهيأ للحفظ والشهادة.
وظاهر الآية أن الملك يكتب كل شيء من الكلام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب. يؤيد الأول
(1)
فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث. قال الحسن البصري وقتادة: يكتبان جميع الكلام، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات، ويمحو غير ذلك.
وقال الحسن البصري، وتلا هذه الآية:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ} : يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك، فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ، طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول تعالى:{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً، اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} ثم يقول: عدل، والله، فيك من جعلك حسيب نفسك.
وبعد بيان إنكارهم للبعث والردّ عليهم بإخبارهم عن قدرته وعلمه، أخبرهم
(1)
رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وله شاهد في الصحيح.
الله تعالى عن ملاقاة صدق ذلك حين الموت وحين القيامة، وعن قرب القيامتين: الصغرى والكبرى، فقال عن الأولى:
{وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي يا أيها الإنسان، جاءت شدة الموت وغمرته التي تغشي الإنسان، وتغلب على عقله ببيان اليقين الذي يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الأخبار بالبعث والوعد والوعيد، والذي كنت تمتري فيه، ذلك الموت أو ذلك الحق الذي كنت تميل عنه وتفرّ منه. والخطاب للإنسان على طريق الالتفات في قوله:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ} إذا فسر ب: ذلك الموت، والخطاب للفاجر إذا فسر ب: ذلك الحق.
والباء في {بِالْحَقِّ} للتعدية، أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلية الحال، من تحقق وقوع الموت، أو من سعادة الميت أو ضدها، كما نطق بها الكتاب والسّنة.
جاء في الحديث الصحيح عن عائشة عن النّبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما تغشاه الموت، جعل يمسح العرق عن وجهه، ويقول:«سبحان الله، إن للموت لسكرات» .
ثم قال الله تعالى مخبرا عن القيامة الكبرى:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي ونفخ في الصور نفخة البعث، ذلك الوقت الذي يكون عظيم الأهوال هو يوم الوعيد الذي أوعد الله به الكفار بالعذاب في الآخرة.
جاء في الحديث الثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له؟ قالوا:
يا رسول الله، كيف نقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال القوم: حسبنا الله ونعم الوكيل».