الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرج ابن جرير أيضا عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين من الأنصار، كانت بينهما مدارأة في حق بينهما، فقال أحدهما للآخر:
لآخذنه عنوة، لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعا ليحاكمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى، فلم يزل الأمر، حتى تدافعوا، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.
والخلاصة: يمكن أن تتعدد أسباب النزول، والوقائع المذكورة متشابهة.
المناسبة:
بعد أن حذر الله تعالى المؤمنين من نبأ الفاسق، أبان هنا ما يترتب على خبره من الفتنة والنزاع، وربما الاقتتال، فطلب تعالى الإصلاح بالوسائل السلمية بين المتنازعين كالنصيحة والوعظ والإرشاد والتحكيم، فإن بغت إحدى الفئتين على الأخرى، فتقاتل الباغية الظالمة. ثم علل الأمر بالصلح بوجود رباط الأخوة بين الفريقين، ثم أمر الوسطاء والأطراف المتنازعة بتقوى الله وطاعة أوامره.
التفسير والبيان:
{وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما} أي إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فيجب على ولاة الأمور الإصلاح بالنصح والدعوة إلى حكم الله والإرشاد وإزالة الشبه وأسباب الخلاف.
والتعبير بإن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع، فإنما هو نادر قليل. والخطاب في الآية لولاة الأمور، والأمر فيها للوجوب.
وقد استدل البخاري وغيره بهذا على أن المعصية وإن عظمت لا تخرج من
الإيمان، خلافا للمعتزلة والخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر وهو في النار.
وثبت في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما، ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى، ويقول:«إن ابني هذا سيّد، ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» . فكان كما قال صلى الله عليه وسلم أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة.
{فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ} أي فإن اعتدت وتجاوزت الحد إحدى الفئتين على الأخرى، ولم تذعن لحكم الله وللنصيحة، فعلى المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى حكم الله وما أمر به من عدم البغي. والقتال يكون بالسلاح وبغيره، يفعل الوسيط ما يحقق المصلحة، وهي الفيئة، فإن تحقق المطلوب بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة، وإن تعين السلاح وسيلة فعل حتى الفيئة.
{فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي رجعت الفئة الباغية عن بغيها، بعد القتال، ورضيت بأمر الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى.
واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما، إن الله يحب العادلين ويجازيهم أحسن الجزاء. وهذا أمر بالعدل في كل الأمور.
أخرج ابن أبي حاتم والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ، بين يدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا»
(1)
.
وأخرج مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور، على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولّوا» .
ثم أمر الله تعالى بالإصلاح في غير حال القتال ولو في أدنى اختلاف، فقال:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي تتميما للإرشاد ذكر تعالى أن المؤمنين إخوة في الدين، ويجمعهم أصل واحد وهو الإيمان، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين، وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين أمر الله بالتقوى، والمعنى: فأصلحوا بينهما، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح وفي كل أموركم تقوى الله وخشيته والخوف منه، بأن تلتزموا الحق والعدل، ولا تحيفوا ولا تميلوا لأحد الأخوين، فإنهم إخوانكم، والإسلام سوّى بين الجميع، فلا تفاضل بينهم ولا فوارق، ولعلكم ترحمون بسبب التقوى وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي.
ويلاحظ أنه قال: اتقوا الله عند تخاصم رجلين، ولم يقل ذلك عند إصلاح الطائفتين، لأنه في حالة تخاصم الرجلين يخشى اتساع الخصومة، وأما في حال تخاصم الطائفتين فإن أثر الفتنة أو المفسدة عام شامل الكل.
وكلمة {إِنَّمَا} للحصر تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا أخوة بين المؤمن والكافر، لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه، وتفيد أيضا أن أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الأخوة في الإسلام، لا بين الكفار. فإن كان
(1)
إسناده جيد قوي، ورجاله على شرط الصحيح.