الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ} أن لن يبرز الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أحقادهم، والأضغان: جمع ضغن أي حقد شديد {لَأَرَيْناكَهُمْ} أي عرّفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم، واللام لام الجواب، وكررت في المعطوف الآتي:{فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ} أي بعلامتهم، والفاء هنا فاء التفريع {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ} جواب قسم محذوف، أي وو الله لتعرفنهم {لَحْنِ الْقَوْلِ} أسلوبه ومعناه، أو إمالته عن وجهه الصريح إلى التعريض والتورية، فإذا تكلموا عندك عرّضوا بما يعيب أمر المسلمين {وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ} فيجازيكم على حسب قصدكم، إذ الأعمال بالنيات.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} لنختبرنكم بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة أي نعاملكم معاملة المختبر بالجهاد {حَتّى نَعْلَمَ} علم ظهور وانكشاف، أما العلم الحقيقي فهو متوفر بالنسبة لله {وَالصّابِرِينَ} في الجهاد وغيره من المشاق {وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} نظهر حسن أعمالكم وقبحها، وطاعتكم وعصيانكم في الجهاد وغيره، أو أخباركم عن الإيمان وموالاة المؤمنين صدقا وكذبا.
المناسبة:
بعد بيان حال إعراض المنافقين عن الخير واستماع القرآن، أمرهم تعالى بتدبر القرآن، ونهاهم عن الإعراض عنه كيلا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات، ثم أخبر أنهم رجعوا وارتدوا إلى الكفر بعد ما تبين لهم حقيقة الإسلام بالدلائل الواضحة، أو نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة بالمعجزات الباهرة، وأوضح سبب ردتهم وهو قولهم ليهود بني قريظة والنضير: سنطيعكم في بعض الأمور والأحوال.
ثم ذكر تعالى ما يلاقونه من أهوال عند قبض أرواحهم بسبب اتباع أهوائهم وإسخاط ربهم، وأردفه ببيان قدرة الله على كشف أحوالهم وافتصاح أمرهم، وأعلن صراحة لهم أن الدنيا دار اختبار بالأوامر والنواهي كالجهاد وغيره، ليعلم المجاهد الصادق في إيمانه، الصابر على مشاقّ التكاليف، وليختبر أعمالهم الحسنة والسيئة، وأخبارهم التي يشيعونها، فيجازيهم بما عملوا.
التفسير والبيان:
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} أي أفلا يتفهم هؤلاء المنافقون وغيرهم القرآن ويتصفحونه، فيعملون بما اشتمل عليه من المواعظ
الزاجرة والحجج الظاهرة والبراهين القاطعة؟ بل أعلى قلوبهم أقفال؟ فهم لا يفهمون ولا يعقلون شيئا من معانيه، ولا تتفتح قلوبهم للحق، وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار.
والآية توبيخ لهم، وأمر بتدبر القرآن وتفهمه، ونهي عن الإعراض عنه.
وقد وردت محققه لمعنى الآية المتقدمة، فإنه تعالى قال:{أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ} أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو عن الخير وغير ذلك من الأمور الحسنة، {فَأَصَمَّهُمْ} لا يسمعون حقيقة الكلام، وأعماهم لا يتبعون طريق الإسلام، فهم كما حكى القرآن بين أمرين: إما ألا يتدبرون القرآن، لأن الله أبعدهم عن الخير، وإما أن يتدبروا لكن لا يدخل معانيه في قلوبهم، لكونها مقفلة.
ثم أبان الله تعالى منشأ ذلك مشيرا إلى أهل الكتاب الذين تبين لهم الحق في التوراة بنعت محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته وارتدوا، أو مشيرا إلى كل من ظهرت له الدلائل وسمعها ولم يؤمن، فقال:
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ، وَأَمْلى لَهُمْ} أي إن الذين فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر، من بعد ما ظهر لهم الهدى بما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات الظاهرة والدلائل الواضحة، زين لهم الشيطان خطاياهم، وسهّل لهم الوقوع فيها، وحسّن لهم الكفر، وخدعهم وغرهم بالأماني والآمال، ووعدهم بطول العمر ومدّ الأجل.
وهذا الكلام: قيل: إنه في أهل الكتاب، قال قتادة: نزلت في قوم من اليهود، وكانوا عرفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من التوراة، وتبين لهم بهذا الوجه، فلما باشروا أمره، حسدوه، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى.
وقيل: إنه في المنافقين، قال ابن عباس وغيره: نزلت في منافقين كانوا أسلموا، ثم ماتت قلوبهم.
والظاهر-كما ذكر أبو حيان-أن الآية تتناول كل من دخل في لفظها.
ثم بيّن الله تعالى بعض مظاهر ضلالهم، فقال:
{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ} أي ذلك الارتداد والكفر بعد الإيمان بسبب أن هؤلاء المنافقين وغيرهم من اليهود الذين ارتدوا على أدبارهم قالوا للذين أبغضوا ما نزّل الله في قرآنه، وهم المشركون أو اليهود: يهود بني قريظة والنضير من يهود المدينة: سنطيعكم في بعض الأمور، كعداوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة ما جاء به، والقعود عن الجهاد معه، أي إنهم مالئوهم وتآمروا معهم سرا أأو في الباطن، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون.
لذا كشفهم الله وأبان أنه يعلم ما يسرون وما يخفون وما يعلنون، كقوله تعالى:{وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ} [النساء 81/ 4].
ونظير الآية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} [الحشر 11/ 59].
ثم ذكر الله تعالى سوء حالهم وما يتعرضون له من أهوال حين توفيهم، فقال:
{فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ} ؟ أي فكيف حالهم وكيف يعملون ويصنعون إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم، واستخرجتها بالعنف والقهر وضرب وجوههم وظهورهم، وذلك بكيفية يكرهونها وحال يخافونها في الدنيا، ويجبنون عن القتال من أجلها، كما قال سبحانه:
[الأنفال 50/ 8] وقال عز وجل: {وَلَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ،
وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ} -أي بالضرب- {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام 93/ 6]. ومعنى الكلام التخويف والتهديد، أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر.
وسبب هذه الأهوال ما قال تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ، وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ، فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ} أي ذلك التوفي على الصفة المذكورة بسبب اتباعهم ما يسخط الله من الكفر والمعاصي، وتآمرهم مع أعداء الله على معاداة ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكراهيتهم ما يرضي الله من الإيمان الحق والتوحيد والطاعة، فأبطل الله أعمالهم الخيرية بهذا السبب، ومنها ما قد عملوا من الخير قبل الردة، كالصدقة وعون البائس الفقير وإغاثة الملهوف، لأنهم فعلوه أثناء الشرك والكفر وأمر الشيطان، كما قال تعالى:{وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} [الفرقان 23/ 25].
ثم وبخ الله تعالى المنافقين وهددهم على قصر نظرهم وعداوتهم للمؤمنين، فقال:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ} أي أيعتقد هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق وحقد وعداوة للمؤمنين أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين ويبرز أحقادهم وعداواتهم؟! لا تظنوا هذا، فالله عالم الغيب والشهادة، يعلم السر وأخفى، فيوضح أمرهم ويجليه ويفضح شأنهم كما فعل في سورة براءة التي تسمى الفاضحة.
ثم أكد تعالى هذا المعنى بقوله:
{وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ} أي ولو نشاء يا محمد لأعلمناك أشخاصهم، وعرّفناك أعيانهم معرفة
تقوم مقام الرؤية، فعرفتهم بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه، وحملا للأمور على ظاهر السلامة.
وو الله لتعرفنهم يا محمد في فحوى الكلام ومقصده ومغزاه، وهو تعريضهم بأمرك وأمر المسلمين، ومخاطبتهم النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ ظاهرها الحسن، وباطنها القبح. قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافق إلا عرفه. وعن أنس أنه ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين، ولقد كنا في بعض الغزوات، وفيها تسعة منهم يشكوهم الناس، فناموا ذات ليلة، وأصبحوا، وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب: هذا منافق.
والله لا تخفى عليه خافية، ويعلم جميع أعمالهم، فيجازيهم عليها من خير أو شر. وهذا وعد ووعيد، وبشارة وإنذار.
ثم أعلن الله تعالى منهج الحياة الدنيوية بالنسبة للتكاليف الشرعية، فقال:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} أي ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي ونعاملنكم معاملة المختبر، ومنها الجهاد في سبيل الله، حتى نعلم علم ظهور وانكشاف، فالله يعلم الحقائق كلها قبل وجودها، وإنما التكليف يظهر المجاهدين بحق في سبيل الله، الذين امتثلوا الأمر بالجهاد، ويظهر الذين صبروا على دينه ومشاق ما كلّف به، ويظهر أخبار الناس ويكشفها امتحانا لهم، ليظهر للناس من أطاع ما أمره الله به، ومن عصى ولم يمتثل. ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذا: إلا لنعلم، أي لنرى.
وقال علي رضي الله عنه: {حَتّى نَعْلَمَ} : حتى نرى.
وقال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبتلينا، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا.