الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما الاستمتاع بالطيبات المباحات من غير اعتداء ولا تجاوز الحدود، فهو مباح للمسلم والكافر على السواء، لقوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة 87/ 5]، وقوله سبحانه:{قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف 32/ 7].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1 -
إن عقوق الوالدين من الكبائر، وإن من أكبر الكبائر الإشراك بالله، وإنكار البعث والمعاد.
2 -
إن عاطفة الأبوين الصادقة المتأججة تدفعهما إلى الاستغاثة بالله وسؤاله ودعائه بالهداية لولدهما الكافر منكر البعث، أو الاستغاثة بالله من كفره، وهما يقولان له: ويلك آمن، أي صدّق بالبعث، إن وعد الله صدق لا خلف فيه، والمراد بالدعاء عليه الحثّ والتحريض على الإيمان، لا حقيقة الهلاك.
3 -
لم يقابل الولد تلك العاطفة بالتقدير والاحترام، فأجاب والديه:
ما هذا الذي تقولانه من أمر البعث وتدعوانني إليه إلا أكاذيب الأولين الأقدمين وأباطيلهم. ولم يكن قوله بلطف وإنما بتضجر وتبرم، وذلك من الكبائر أيضا.
4 -
كان هذا الولد القائل وأمثاله من الذين حقت عليهم كلمة العذاب، أي وجب عليهم العذاب بكلمة الله:«هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي» مع أمم تقدمت ومضت من قبلهم من الجن والإنس الكافرين، وإن تلك الأمم الكافرة ومن سار في منهجهم كانوا خاسرين لأعمالهم، ضيعوا سعيهم، وخسروا الجنة.
5 -
لكل واحد من فريقي المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم، وليوفيهم الله أعمالهم ولا يظلموا حقوقهم، فلا يزاد على مسيء، ولا ينقص من محسن.
6 -
يقال للكافرين تقريعا وتوبيخا حين تقريبهم من النار ونظرهم إليها، أو عند تعذيبهم بها: لقد تمتعتم بطيبات الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي، فاليوم تجزون عذاب الخزي والفضيحة والهوان، بسبب استعلائكم على أهل الأرض بغير استحقاق، وتكبركم عن اتباع الحق والإيمان، وخروجكم عن طاعة الله بغيا وظلما.
ويلاحظ أن الاستكبار عن قبول الحق: ذنب القلب، والفسق: عمل الجوارح (الأعضاء).
ويحتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لأن فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات.
قال المفسرون: والأشياء الطيبة اللذيذة غير منهي عنها، لقوله تعالى:
{قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف 32/ 7]، ولكن التقشف وترك التكلف دأب الصالحين، لئلا يشتغل بغير المهم عن المهم، ولأن ما عدا الضروري لا حصر له، وقد يجرّ بعضه بعضا إلى أن يقع المرء في حد البعد عن الله تعالى
(1)
.
وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصّفّة، وهم يرقعون ثيابهم بالأدم
(2)
، ما يجدون لها رقاعا، فقال: «أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة، ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة، ويراح بأخرى، ويستر
(1)
غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري النظّام: 12/ 26
(2)
أدم: جمع أديم وهو الجلد.
البيت كما تستر الكعبة؟» قالوا: نحن يومئذ خير، قال:«بل أنتم اليوم خير» .
وذكر قتادة عن عمر رضي الله عنه، قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وأحسنكم لباسا، ولكنني أستبقي طيباتي للآخرة، لأن الله وصف قوما، فقال:
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ} .
وعن عمر أن رجلا دعاه إلى طعام فأكل، ثم قدّم شيئا حلوا فامتنع، وقال:
رأيت الله نعى على قوم شهواتهم، فقال:{أَذْهَبْتُمْ} الآية، فقال الرجل: اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ولست منهم، فأكل وسرّه ما سمع.
وفي صحيح مسلم وغيره: أن عمر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربته
(1)
حين هجر نساءه، قال: فالتفت فلم أر شيئا يردّ البصر إلا أهبا
(2)
جلودا معطونة، قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله، أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الدّيباج والحرير؟ قال: فاستوى جالسا وقال: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» فقلت: استغفر لي، فقال:«اللهم اغفر له» .
والخلاصة: أن الآية للنعي على الكفار الذين يعذبون بالنار، وأن استمتاعهم بالطيبات في الدنيا ليحرموا منها في الآخرة، عدلا من الله وفضلا ورحمة. وليس في الآية أن كل من أصاب الطيبات المباحات في الدنيا، فإنه لا يكون له منها حظ في الآخرة، والمؤمن يؤدي بإيمانه شكر المنعم، فلا يوبّخ بتمتعه بالدنيا.
(1)
المشربة: الموضع الذي يشرب منه الناس. والمشربة: الغرفة.
(2)
الأهب: جمع إهاب: وهو الجلد.