الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ} أي فإذا واجهتم الكفار في القتال، فاحصدوهم حصدا بالسيوف، واضربوا الرقاب ضربا. وهذا أمر بجهاد الكفار، وهم من لم يكن لهم عهد مع المسلمين، من المشركين وأهل الكتاب، عند وجود مسوغات القتال وتوافر العدوان، وهو قتال لا شفقة فيه ولا هوادة، وإنما يجب إعمال السلاح فيهم، حسبما تقتضي طبيعة الحرب، كما قال تعالى:
{وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ} [البقرة 193/ 2].
هذا هو الحكم الأول في أثناء المعركة، أما بعد انتهاء المعركة فقال الله تعالى:
{حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ، فَشُدُّوا الْوَثاقَ، فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها} أي حتى إذا أكثرتم فيهم القتل، وغلبتموهم، وأصبحوا بلا قوة كالرجل المثخن بالجراح، فضعفوا واستكانوا وصاروا أسرى في أيديكم، وانتهت الحرب بإثخانهم وقهرهم، فأسروهم وأحكموا القيد عليهم لئلا يفلتوا ويهربوا.
وبعد الأسر أنتم مخيرون بين أمرين: إما المنّ عليهم بإطلاق سراحهم بلا مقابل أو بغير عوض، وإما الفداء بمبادلتهم بالأسرى المسلمين أو بدفع الفداء وهو المال الذي يفدي به الأسير نفسه من الأسر.
وذلك حتى لا يكون حرب مع الكفار ولا قتال، بأن يضع الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة، أي إن غاية هذه الأوامر إنهاء الحرب والقتال. وهذا في الحقيقة حث على السلم المستتب، ليعيش الناس في سلام وأمان، ويتم تبادل الأفكار، وتنتشر دعوة الإسلام بالحكمة والإقناع، والحجة والبرهان، والموعظة الحسنة، فليس انتشار الإسلام بالسيف كما يتصور بعض
الأعداء، وإنما كان انتشاره بالقناعة الذاتية، وبالاستحسان الحر الطليق دون إجبار ولا إكراه:{لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} [البقرة 256/ 2].
وصريح الآية يوجب القتل فقط قبل الإثخان، والتخيير بعد الأسر بين المن والفداء. وجاءت السنة مبينة جواز القتل بعد الأسر للمصلحة، كما جاء فيها إباحة الاسترقاق جريا على العادة السائدة في الماضي ومعاملة بالمثل. والظاهر أن الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن الله تعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ، ليأخذوا منهم الفداء.
ثم بيّن الله تعالى الحكمة في شرع القتال، فقال:
{ذلِكَ، وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي ذلك هو الحكم في قتال الكفار، والله قادر على الانتصار من أعدائه بالانتقام منهم، وإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب كالخسف والرجفة والغرق، دون قتال منكم أيها المؤمنون، ولكن الله أمركم بحربهم ليختبر بعضكم ببعض، فيعلم المجاهدين في سبيله، والصابرين على ابتلائه، ويجزل ثوابهم، ويعذب الكفار بأيديهم، أو يحملهم الخوف على الإيمان بالله تعالى قبل نزول العذاب بهم، ومشاهدة قتل أمثالهم، فالحكمة من القتال: هي امتحان الناس واختبار صبرهم على المكاره: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ} [آل عمران 142/ 3].
ثم ذكر الله تعالى ثواب الشهداء المجاهدين في سبيله قائلا:
1 -
{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ} أي إن المقتولين في سبيل الله لا يضيع الله سبحانه أجرهم، ولن يجعل أعمالهم ضائعة كما تضيع أعمال الكفار.
أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشهيد عند الله ست خصال:
أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلّة الإيمان، ويزوّج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصّع بالدر والياقوت، الياقوتة خير من الدنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفّع في سبعين إنسانا من أقاربه».
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يغفر للشهيد كل شيء إلاّ الدّين» .
2 -
{سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ} أي سيوفقهم الله تعالى للعمل بما يحبه ويرضاه، ويرشدهم إلى طريق الجنة، ويصلح حالهم وأمرهم وشأنهم في الآخرة، أي تحفظ أعمالهم وتخلد لهم، ويدخلهم روضات الجنات يحبرون فيها، وقد عرّفهم بها، وأعلمهم وبيّنها لهم من غير استدلال، حتى إن أهلها يهتدون إلى بيوتهم ومساكنهم من غير مرشد ولا دليل.
جاء في الحديث الصحيح عند البخاري: «والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا» .
وقال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها، لا يخطئون، كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدا.
والتكرار بين {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ} لأن الأول سبب النعيم، والثاني نفس النعيم.
والناس في الجنة درجات بحسب أعمالهم، كما قال تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا} [الأنعام 132/ 6].