الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد بيان حال المنافقين، بيّن الله تعالى حال المتخلفين، وهم قوم من الأعراب امتنعوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لظنهم أنه يهزم، وقد ذكر تعالى أحوالا ثلاثا لهم: هي الاعتذار عن التخلف عن الحديبية بانشغالهم في الأموال والأهل، وطلب المشاركة في وقعة خيبر وغنائمها، ودعوتهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد، ثم استثنى تعالى أصحاب الأعذار لترك الجهاد.
التفسير والبيان:
الاعتذار عن التخلف: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ: شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا، فَاسْتَغْفِرْ لَنا} أخبر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أثناء عودته من الحديبية بما يعتذر به المخلفون الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم، وتركوا السير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى مكة معتمرا عام الحديبية، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة وهم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وأشجع والدّيل، وإنما قال:
{الْمُخَلَّفُونَ} لأن الله خلّفهم عن صحبة نبيه صلى الله عليه وسلم. والمخلّف: المتروك. والآية من إعجاز القرآن، لإخباره عن الغيب، وقد وقع الأمر مطابقا لخبر القرآن.
ولقد اعتذروا بشغلهم بالأموال والأهل، وسألوا أن يستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليغفر الله لهم ما وقع منهم من التخلف عنه بسبب الانشغال، لا بسبب العصيان ومخالفة الأمر. وذلك في الحقيقة قول منهم، لا على سبيل الاعتقاد، بل على وجه التقية والمصانعة، لذا رد الله عليهم وكذّبهم بقوله:
{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي إنهم ليسوا صادقين في الاعتذار، فهم يتصنعون ذلك بظواهر ألسنتهم، أما في أعماق قلوبهم فهم يعتقدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه سينهزمون، ويخافون من مقاتلة قريش وثقيف
وكنانة والقبائل المجاورة لمكة، وهم الأحابيش، بدليل قوله تعالى:{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} .
{قُلْ: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً، بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي قل أيها النبي لهم: فمن يمنعكم مما أراده الله بكم من خير أو شر؟ أي لا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم، وإن صانعتمونا ونافقتمونا، سواء بإنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل، أو بتحقيق النفع لكم من نصر وغنيمة.
بل في الحقيقة، إن تخلفكم ليس لما زعمتم، فإن الله خبير بجميع ما تعملونه من الأعمال، وقد علم أن تخلفكم لم يكن للانشغال بالمال والأهل، بل للشك والنفاق والخذلان وسوء الاعتقاد والخوف من قريش وأعوانهم وما خطر لكم من الظنون الفاسدة، الناشئة عن عدم الثقة بالله تعالى، ثم افتضح شأنهم، فقال تعالى:
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، بل تخلف نفاق، وقد اعتقدتم أن العدو يقتل ويستأصل المؤمنين نهائيا، فلا يرجع أحد منهم إلى أهله إلى الأبد، وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، فقبلتموه، وظننتم أن الله سبحانه لا ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكنتم قوما هالكين عند الله تعالى، وصرتم بما فعلتم لا تصلحون لشيء من الخير، تستحقون شديد العقاب.
ثم أخبر الله تعالى عن عقاب الكفار، فقال:
{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً} أي من لم يصدّق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله، كما
صنع هؤلاء المخلفون، فجزاؤهم ما أعده الله لهم من عذاب السعير والنار الشديدة الالتهاب جزاء الكفر.
ثم أبان تعالى مدى قدرته الشاملة لكل شيء، فقال:
{وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي لله سلطة التصرف المطلق في أهل السموات والأرض، يتصرف فيهم كيف يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا معقب لقضائه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه.
يغفر لمن يشاء أن يغفر له ذنوبه، ويعذب بالنار من يريد أن يعذبه على كفره ومعصيته، والله ما يزال غفورا لذنوب عباده التائبين، رحيما يرحم جميع خلقه، ويخص بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده.
وفي هذا حث عام على الإصلاح، وترغيب لهؤلاء المتخلفين وأمثالهم من المقصرين بالتوبة والإنابة والرجوع إلى أمر الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الآية أيضا بيان واضح أنه تعالى يغفر للمبايعين بمشيئته، ويعذب الآخرين بمشيئته، وغفرانه ورحمته أعم وأشمل، وأتم وأكمل، وأن عظيم الملك يكون أجره في غاية السعة، وعذابه وعقوبته في غاية النكال والألم.
طلب المشاركة في وقعة خيبر:
ثم أوضح الله تعالى كذب المتخلفين في ادعائهم الانشغال بالمال والأهل، بدليل طلبهم السير مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، لما توقعوا من مغانم يأخذونها، فقال:
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ} أي سيقول هؤلاء الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، إذا انطلقتم أيها المسلمون إلى مغانم خيبر لتأخذوها وتحوزوها: اتركونا نتبعكم في
السير، ونشهد معكم غزو خيبر، لأنهم علموا أن الله وعد المسلمين فتح خيبر وتخصيص من شهد الحديبية بغنائمها.
والخلاصة: أنه لو كان اعتذارهم بالانشغال صحيحا، لما طلبوا السير مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر.
{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ} أي يريدون تبديل وعود الله لأهل الحديبية بتخصيصهم بمغانم خيبر، فقد أمر الله رسوله ألا يسير معه إلى خيبر أحد من غير أهل الحديبية، ووعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم، لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ذلك شرعا ولا قدرا.
ثم صدر قرار المنع صراحة، فقال تعالى:
{قُلْ: لَنْ تَتَّبِعُونا، كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ} أي قل لهم أيها الرسول صراحة: لن تسيروا معنا في خيبر، وهكذا أخبرنا الله تعالى من قبل رجوعنا من الحديبية ووصولنا إلى المدينة: أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة، ليس لغيرهم فيها نصيب. والخلاصة: وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم.
وهذا نحو قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ؟؟ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ} [التوبة 83/ 9]
(1)
.
ثم أخبر الله تعالى عن ردهم على ذلك بقوله:
{فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنا} أي فسيقول المخلفون عند سماع هذا القول:
(1)
وهذا لمجرد إيراد التشابه في الحكم، وإن كانت هذه الآية في براءة نزلت في غزوة تبوك، وهي متأخرة عن عمرة الحديبية.
بل إنكم تحسدوننا في المشاركة في الغنيمة، والحسد لا غيره هو الذي يمنعكم من الإذن لنا في الخروج معكم.
فأجابهم الله تعالى بقوله:
{بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً} أي ليس الأمر كما زعموا أمر حسد منكم على أخذهم شيئا من الغنيمة، بل لأنهم لا يفهمون إلا فهما قليلا، والمراد:
لا يفهمون شيئا من أمور الدين وهو جعل القتال لله تعالى، وإصلاح النية له، وصدق الإيمان به، وإن كانوا يعلمون ويفهمون أمور الدنيا.
وهذا دليل على أن محاولتهم نقض حكم الله تعالى، واتهام المؤمنين بالحسد صادر عن جهل وقلة تدبر ووعي، وإنهم قوم ماديون لا يعرفون إلا الدنيا.
وقد دعوتهم إلى القتال باستثناء أصحاب الأعذار إن كانوا صادقين في طلب المشاركة مع المؤمنين.
ثم أبان الله تعالى أن ميدان القتال متسع ما يزال مفتوحا إن أرادوا إثبات إخلاصهم مع النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا، فقال:
{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أي قل أيها النبي لهؤلاء المخلفين من الأعراب إن أرادوا الانتماء إلى الصف الإسلامي بحق وصدق: ستندبون إلى قتال قوم أولي شدة وصلابة ونجدة، تخيرونهم بين أحد أمرين: إما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، وهذا حكم الكفار الذين لا عهد بينهم وبين المسلمين بعقد الجزية ونحوها، ويشمل مشركي العرب والمرتدين وغير العرب.
أما المفسرون فذكروا أربعة أقوال في تعيين أولئك القوم وهي:
أ-هوازن وغطفان يوم حنين، وكان قتالهم بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة.
ب-ثقيف.
ج -بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة، وكان قتالهم بعد ذلك أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وأكثر المفسرين على أن القوم هم بنو حنيفة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر، لأنه تعالى قال:{تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} ومشركو العرب والمرتدون هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس تقبل منهم الجزية عند أبي حنيفة. وأما الشافعي فعنده لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس دون مشركي العجم والعرب.
د-أهل فارس والروم وأهل الأوثان.
قال ابن جرير: إنه لم يقم دليل من نقل ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين.
ثم وعدهم الله تعالى بالثواب إن أطاعوا، وأوعدهم بالعذاب إن عصوا، فقال:
{فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ، يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً} أي فإن تستجيبوا، وتنفروا في الجهاد، وتؤدوا ما عليكم، يعطكم الله ثوابا حسنا، وهو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
وإن تعرضوا كما أعرضتم من قبل زمن الحديبية، حيث دعيتم فتخلفتم، يعذبكم عذابا شديدا مؤلما بالقتل والأسر والقهر في الدنيا، وبعذاب النار في الآخرة، لعظم جرمكم.
ثم استثنى الله تعالى أصحاب الأعذار من فرضية الجهاد ومن الوعيد على التخلف، فقال:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي ليس على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار وهي العمى والعرج المستمر