الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الله بن سلام نزلت، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله. وأخرج ابن جرير والترمذي وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال:«فيّ نزلت» ونزل فيّ: {قُلْ: كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} [الرعد 43/ 13].
المناسبة:
بعد تقرير التوحيد ونفي الأضداد والأنداد، ذكر الله تعالى أمر النبوة وشبهات المشركين حولها وحول القرآن، فأبان أنهم يسمون معجزة القرآن بالسحر، وأنهم متى سمعوا القرآن قالوا: إن محمدا افتراه واختلقه من عند نفسه، ثم أبطل تعالى شبهتهم، فقال: إن افتريته على سبيل الفرض، فإن الله تعالى يعاجلني بالعقوبة، وأنتم لا تقدرون على دفع العذاب عني، فكيف أقدم على هذه الفرية، وأعرّض نفسي لعقابه؟! ثم حكى عنهم نوعا آخر من الشبهات، وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجابهم الله تعالى بأن يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لست بأول رسول أرسله الله، حتى تنكروا إخباري بأني رسول الله إليكم، وتنكروا دعوتي لكم إلى التوحيد، ونهي عن عبادة الأصنام، فإن كل الرسل إنما بعثوا لهذه الأهداف والغايات، وأنا من جنس الرسل وواحد منهم لا أستطيع ولا أقدر على الإتيان بالمعجزات والإخبار عن المغيبات، فذلك ليس في وسع البشر، وإنما هو بقدرة الله تعالى.
التفسير والبيان:
{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي إذا تليت على المشركين آيات القرآن حال كونها بيّنة واضحة
جلية، قالوا في شأن الحق الذي أتاهم وهو القرآن: هذا سحر واضح وتمويه خادع، فكذبوا به وافتروا، وكفروا وضلوا.
ثم ذكر الله تعالى ما هو أشنع من وصف القرآن بالسحر ورد عليهم، فقال:
{أَمْ يَقُولُونَ: اِفْتَراهُ، قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ، فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً} أي بل أيقولون: افترى محمد هذا القرآن واختلقه من عند نفسه، كذبا على الله؟ فرد الله تعالى عليهم: قل لهم أيها الرسول: لو افتريته وكذبت على الله على سبيل الفرض والتقدير كما تدّعون، وزعمت أنه أرسلني رسولا إليكم، ولم يكن الأمر كذلك، لعاقبني أشد العقوبة، ولم يقدر أحد من أهل الأرض، لا أنتم ولا غيركم أن يدفع عقابه عني، فكيف أقدم على هذه الفرية، وأعرّض نفسي لعقابه؟ وقوله:{أَمْ} للإنكار والتعجيب كما تقدم، كأنه قيل: دع هذا واسمع القول المنكر العجيب.
ونظير الآية قوله تعالى: {قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلاّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ} [الجن 23/ 72]. وقوله سبحانه:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} [الحاقة 44/ 69 - 47] وذكر هنا:
{هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ، كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي الله أعلم بما تقولون في القرآن، وتخوضون فيه، من التكذيب له، والقول بأنه سحر وكهانة، كفى بالله شاهدا صادقا يشهد لي بأن القرآن من عنده، وبالبلاغ لكم، وبالتكذيب والجحود منكم، ومع كل هذا الذي صدر منكم فالله هو الغفور لمن تاب وآمن، وصدّق بالقرآن، وعمل بما فيه.
وهذا جمع بين الوعيد والتهديد والترهيب وبين الترغيب لهم في التوبة
والإنابة، وذلك كقوله تعالى:{وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان 5/ 25 - 6].
ثم رد الله على المشركين شبهة أخرى هي اقتراح الإتيان بمعجزات، والإخبار عن مغيبات فقال:
{قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} أي لست بأول رسول جاء إلى العالم، بل قد بعث الله قبلي كثيرا من الرسل، فما أنا بالأمر المبتدع الذي لا نظير له، حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم، ولست أعلم ما يفعل بي ولا بكم في مستقبل الزمان في الدنيا وكذا يوم القيامة، هل أبقى في مكة أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل، وهل تعجل لكم العقوبة أيها المكذبون أم تمهلون؟ والمعنى: إني لا أعلم بما لي بالغيب، فأفعاله تعالى وما يقدره لي ولكم من قضاياه لا أعلمها
(1)
.
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ، وَما أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي إنما أتبع الوحي الذي ينزله الله علي في القرآن والسنة، ولا أبتدع من عندي شيئا، ولست إلا نذيرا لكم أنذركم عقاب الله وأخوفكم عذابه على نحو واضح ظاهر لكل عاقل.
وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري ما يؤول إليه أمره وأمر المشركين في دار الدنيا، أما في الآخرة فهو صلى الله عليه وسلم جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وذلك في الجملة، ولا يقطع لشخص معين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة المبشرين بالجنة
(2)
، وابن سلام، والعميصاء، وبلال، وسراقة،
(1)
البحر المحيط: 56/ 8
(2)
وهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وطلحة بن عبد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.
وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، والقرّاء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم، والدليل على ذلك الحديث التالي:
أخرج أحمد والبخاري عن أم العلاء-وهي امرأة من نساء الأنصار-قالت:
وفي رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: «أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئا لك ابن مظعون الجنة، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر مغضب، وقال: وما يدريك؟ والله، إني لرسول الله، وما أدري ما يفعل الله بي، فقالت: يا رسول الله، صاحبك وفارسك وأنت أعلم، فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى، وأخاف عليه ذنبه» .
ثم أكد الله تعالى خسارة المشركين قائلا:
{قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَكَفَرْتُمْ بِهِ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله في الحقيقة، والحال أنكم قد كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل الله في التوراة على صحته وعلى مثله وهو القرآن، أو على مثل ما قلت، فآمن الشاهد بالقرآن لما تبيّن له أنه من كلام الله، وهذا الشاهد هو عبد الله بن سلام الذي أسلم بعد الهجرة، ثم تكبرتم عن الإيمان به، فقد ظلمتم أنفسكم
(1)
وكنتم
(1)
هذا جواب الشرط المحذوف لقوله: إِنْ المفهوم من قوله: إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي.. . والمفعول الثاني لقوله أَرَأَيْتُمْ مقدر، أي ألستم ظالمين؟
من الخاسرين. وقوله: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} معناه لا يوفقهم إلى الخير، وهو استئناف بياني، تعليل لاستكبارهم.
وبعبارة أخرى: ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي قد جئتكم به قد أنزله الله علي لإبلاغكم به، وقد كفرتم به وكذبتموه، ألستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟! أو ألستم كنتم ظالمين لأنفسكم؟ يدل على هذا الجواب المحذوف قوله:{إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} .
والشاهد في رأي أكثر المفسرين هو عبد الله بن سلام، بدليل
ما ذكر صاحب الكشاف: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر-أي ابن سلام-إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، وقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته، فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، ثم قال:
يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال:
أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله، وأحذر»
(1)
.
أما إنكار أن يكون الشاهد هو عبد الله بن سلام، لأن إسلامه كان بالمدينة
(1)
الكشاف: 119/ 3