الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمرض المزمن، أو الطارئ أياما حتى يبرأ إثم وذنب في التخلف عن الجهاد، لعدم استطاعتهم. وقدم الأعمى على الأعرج، لأن عذره دائم مستمر.
قال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية، وقد عذرهم.
ثم رغّب سبحانه وتعالى في الجهاد وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:
{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ، يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً} أي يطع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بإخلاص، فيجاهد مع المؤمنين لإعلاء كلمة الله تعالى والدفاع عن دينه، يدخله الله في الآخرة جنات تجري من تحت قصورها الأنهار تتدفق عذوبة وتتلألأ بياضا، ومن يعرض عن الطاعة، ويعص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيتخلف عن القتال، يعذبه الله عذابا شديد الألم، في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار.
وبالرغم من أن طاعة كل واحد من الله والرسول طاعة الآخر، فإنه جمع بينهما بيانا لطاعة الله غير المرئي وغير المسموع كلامه، فقال: طاعته عز وجل في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلامه سبحانه يسمع من رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات الإخبار عن أحوال ثلاث للمتخلفين:
الحال الأولى-اعتذارهم بالأموال والأهل: وهذا يدل على الأمور التالية:
1 -
إن اعتذار جماعة من الأعراب كانوا حول المدينة كان بعذر سطحي واه هو الانشغال بالأموال والأهل، أي ليس لهم من يقوم بهم، بعد أن استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم ليخرجوا معه حذرا من قريش، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي (شاة ونحوها) ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت الآية في شأنهم، وسموا بالمخلّفين أي المتروكين.
وأحسوا بضعف موقفهم، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{فَاسْتَغْفِرْ لَنا} يعني فنحن مع إقامة العذر معترفون بالإساءة، فاستغفر لنا واعف عنا في أمر الخروج.
وهذا إن قبل مع الناس فلا يقبل مع الله تعالى المطلع على حقائق الأمور، لذا دل هذا الموقف على قصور النظر، فضلا عن سوء الاعتقاد والجهل.
2 -
لقد فضحهم الله تعالى أيضا، وكذبهم بأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وهذا هو النفاق المحض، فهم قوم منافقون، ينطبق عليهم العذاب المذكور في الآية السابقة:{وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ.} . [6].
3 -
وردّ الله تعالى عليهم أيضا حين ظنوا أن التخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضّر، ويعجل لهم النفع. والضّر: اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والنفع: ضد الضر.
ومضمون الرد بإيجاز: لن يستطيع أحد دفع ما أراده الله في عباده من خير أو شر.
4 -
وزيّف الله تعالى مدّعاهم، وافتضح شأنهم، وأبان سوء ظنهم حين قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس
(1)
لا يرجعون، وزعموا أن الرسول والمؤمنين سيقتلون ويستأصلون، ولن يعودوا إلى أهليهم أبدا، لأنهم قالوا: أهل مكة يقاتلون عن باب المدينة، فكيف يكون حالهم إذا دخل المسلمون بلادهم، وأحاطوا بهم؟! وزيّن الشيطان النفاق في قلوبهم، وظنوا ظنا سيئا أن الله تعالى لا ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك جمعوا بين النفاق وسوء الظن وسوء التقدير.
(1)
أي هم قليل يشبعهم رأس واحد.
لكل هذا أخبر الله تعالى عن حكمه فيهم وهو أنهم قوم بور، أي هلكى فاسدون لا يصلحون لشيء من الخير.
5 -
ثم أوعدهم الله تعالى بعذاب السعير، وأبان أنهم كفروا بالنفاق.
6 -
وأخبر تعالى عن قدرته الفائقة بتصرفه في أهل السموات والأرض، وأنه غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف بالجهاد وغيره ليثيب من آمن، ويعاقب من كفر وعصى.
الحال الثانية-طلب المسير إلى خيبر: وهذا يشير إلى ما يأتي:
1 -
إنهم قوم أغبياء جهلة كذبة: فكيف اعتذروا سابقا بالانشغال بالأموال والأهل، والآن يطلبون المشاركة في السير إلى خيبر؟! 2 - إنهم قوم ماديون: يفرون من مواطن الخوف والخطر واحتمال القتال، ويحرصون على أخذ غنائم الحرب حينما يحسون بضعف الأعداء وهم يهود خيبر.
3 -
إنهم قوم كفرة: يريدون أن يغيروا كلام الله وحكمه، وقدره ووعده الذي وعد لأهل الحديبية، لأن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر، عوضا عن فتح مكة إذا رجعوا من الحديبية على صلح.
4 -
إنهم جماعة يستحقون النبذ والعزل المدني: لذا حكم الله تعالى بمنعهم من الخروج مع المسلمين إلى خيبر.
5 -
إنهم مرضى القلوب لانطوائها على الحقد والحسد، ومن حقد على الآخرين أو حسدهم ظن أن الآخرين مثله، لذا حاولوا اتهام المسلمين زورا وبهتانا بأنهم يحسدونهم على أخذ شيء من الغنائم. وربما فهموا ذلك من
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن خرجتم لم أمنعكم، إلا أنه لا سهم لكم» فقالوا: هذا حسد،
فقال المسلمون: قد أخبرنا الله في الحديبية بما سيقولونه، وهو قوله تعالى:
{فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنا} .
6 -
إنهم قوم لا يفهمون: فلا يعلمون من الدين شيئا أو قليلا بسبب ترك القتال، وإن كانوا يعلمون أمور الدنيا.
الحال الثالثة-حقل التجربة بالمعارك القادمة: وهذا يدل على ما يأتي:
1 -
أخبر تعالى زيادة في تكذيبهم وافتضاح أمرهم أن ميدان القتال مفتوح، فإن كانوا مسلمين صادقين فليجربوا أنفسهم في ملاقاة أقوام ذوي بأس شديد، ومراس ونجدة.
2 -
فتح الله تعالى باب الأمل أمامهم، وأفادهم بأنهم إن أطاعوا أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجاهدوا بحق يعطهم الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، وإن أعرضوا في المستقبل عن الجهاد كما أعرضوا في الماضي عام الحديبية، يعذبهم بعذاب مؤلم موجع وهو عذاب النار.
وقد استدل بعض المفسرين بآية: {سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم.
واستدلوا بآية {تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} على حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، وهم مشركو العرب والمرتدون، فالخيار مقيد فيهم بأمرين: إما المقاتلة وإما الإسلام، لا ثالث لهما.
واستدل الفقهاء بآية {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.} . على إعفاء أصحاب الأعذار من فريضة الجهاد، وهم الأعمى والأعرج عرجا دائما، والمريض المزمن أو المريض مرضا مؤقتا يمنع من الخروج من المنزل إلى أن يبرأ. واقتصر النص القرآني
على الأصناف الثلاثة، لأن العذر إما بسبب اختلال القوة أو إخلال في عضو، فيقاس عليهما ما في معناهما، كالفقر الذي يمنع من إحضار السلاح حال التطوع بالجهاد ودون تقديمه من الدولة، والاشتغال بذوي الحاجة والضعف كطفل ومريض، ونحو ذلك مما يعرف في الفقه. وقد ضبط الفقهاء الأعذار المانعة من الجهاد بأن المانع إما عجز حسي أو عجز حكمي.
فمن الأول: الصغر والجنون والأنوثة والمرض المانع من الركوب للقتال، والعرج البيّن، وفقد الصبر، وعدم وجدان السلاح وآلات القتال.
ومن الثاني: الرق والدّين الحالّ بلا إذن رب الدين، وعدم إذن أحد الأبوين المسلمين.
ودل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ.} . على الحث على الجهاد والترهيب من ترك القتال، فإن من أطاع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجاهد في سبيل الله، أدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن أعرض عن المشاركة في الجهاد، عذّبه عذابا شديد الألم، لعظم جرمه، وإساءته للمجتمع الإسلامي.
فإن الجهاد سبيل لدحر العدوان، وطرد المعتدين، والتخلص من أذاهم، وهو طريق العزة والكرامة، وصون الاستقلال، وحماية حرمات البلاد والأوطان، والحفاظ على كيان الأمة، ولو لاه لذابت الأمم، وزالت الأديان والقيم، وانصهرت الجماعات، ولحق الذل والهوان والاستعباد بالشعوب إلى الأبد، أو إلى أن تصحو وتستيقظ من رقادها وسباتها، وتنفض الذل عن هاماتها.
لذا جعله الله فريضة على المؤمنين، وإن كان مكروها على النفس، ليعلم الصادق في إيمانه، الصابر على تحمل مشاق التكاليف، واختبار أعمال الناس حسنات أو سيئات، فيجازيهم بها.