الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمام سفيان الثورى وتفسيره
ولد سنة سبع وتسعين، وخرج من الكوفة إلى البصرة سنة خمس وخمسين ومائة وتوفى بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة.
وكان عالم هذه الأمة وعابدها وزاهدها.
وكان لا يعلم أحدا العلم حتى يتعلم الأدب ولو عشرين سنة.
وامتنع مرة من الجلوس للعلم، فقيل له فى ذلك، فقال:
والله لو علمت أنهم يريدون بالعلم وجه الله لأتيتهم فى بيوتهم وعلمتهم، ولكن إنما يريدون به المباهاة، وقولهم حدثنا سفيان.
وكان إذا جلس للعلم وأعجبه منطقه يقطع الكلام ويقوم ويقول:
أخذنا ونحن لا نشعر: وهذه منزلة فى الأخلاق ومحاسبة النفس تعز على من رامها وتطول.
برز سفيان فى الحديث حتى وصل إلى أعلى مراتبه فكان: أمير المؤمنين فى الحديث- وكما أن للمؤمنين أميرا فى مسائل الدنيا فان للمحدثين أمراء وكان منهم سفيان.
كان أبوه من ثقات المحدثين، وكان من غير شك أول من لقن سفيان العلم، فنشأ سفيان- دون اختيار منه- بين كتب الحديث، وتفتحت عيناه على جو من العلم يتسم بعبير النبوة وتسوده جوامع الكلام، واتجه آليا فى دراسته وجهة أبيه، وفى ذلك يقول هو:
(طلبت العلم فلم تكن لى نية ثم رزقنى الله النية).
أى أنه طلب العلم أولا بحكم العادة البحتة، ثم وفقه الله سبحانه لأنه يقصد به وجه الله.
ولكن مما يجدر ملاحظته أن المحدثين إذ ذاك ما كانوا يأخذون على تدريس الحديث أجرا فلقد كانوا يتمثلون قوله تعالى:
قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ.
(سورة الأنعام الآية 90) وفى سبيل طلب العلم قدم له أهله كل معونة وهيئوا له ما يمكن- وهو نزر يسير- من المساعدة، وفى ذلك تقول أمه:
(يا بنى، أطلب العلم وأنا أعولك بمغزلى، وإذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى فى نفسك زيادة فى الخير فان لم تر ذلك فلا تتعبن نفسك).
ويكفينا فى هذه الكلمة أن نأخذ منها:
1 -
أن الجو الذى كان يعيش فيه سفيان كان جو تقشف.
2 -
أن هذا الجو كان يتسم بالتقوى والصلاح.
ونشأ سفيان بين «أب» من ثقات المحدثين، وأم تريد أن تعوله بمغزلها ليطلب العلم. من أجل زيادة النور فى قلبه.
وبدأ سفيان يتعلم اتباعا لأبيه، واستجابة لرغبة أمه.
وما إن دخل دور الشباب حتى بدأ يفكر جديا فى أمر معيشته، يقول سفيان:
لما همت بطلب الحديث، ورأيت العلم يدرس، قلت: أى رب، إنه لا بد لى من معيشة، فاكفنى هم الرزق، وفرغنى لطلبه، فتشاغلت بالطلب فلم أر إلا خيرا وأعلنها فى صراحة صريحة:
عليك بعمل الأبطال: الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال.
ولما سئل عن الحلال ما هو؟ قال:
تجارة برة، أو عطاء من إمام عادل، أو صلة من أخ مؤمن، أو ميراث لم يخالطه شىء.
ويوصى سفيان من عنده قدر من المال أن يصلحه أى يثمره، فيقول:
من كان فى يده من هذه التجارة شىء فليصلحه، فانه زمان من احتاج كان أول ما بذل دينه.
ومن أجل كل ذلك طلب سفيان المال عن طريق التجارة، وسافر متاجرا.
ومع كل ذلك فما كان سفيان صاحب ثراء عريض، وما كان ليتمنى أن يكون صاحب ثراء عريض لقد وهب نفسه للعلم ووهبها للعلم لوجّه الله سبحانه وتعالى، وما كان هدفه من المال إلا حفظ ماء وجهه ومن أجل ذلك لم يكن يستغرق فى التجارة وإنما كان يتاجر بقدر كسب ما يكفيه ثم يكرس باقى وقته للعلم.
كان سفيان الثورى معنيا بالقرآن عناية كبيرة، ولا يتأتى أن يكون الأمر على غير ذلك، فالقرآن فى حياة المسلم هو الأساس الأصيل الذى بدونه لا يكون اسلام، يقول الوليد بن عقبة:
كان سفيان الثورى يديم النظر فى المصحف، فيوم لا ينظر فيه يأخذه فيضعه على صدره.
ويقول عبد الرازق:
كان الثورى جعل على نفسه، لكل ليلة جزءاً من القرآن وجزءا من الحديث فيقرأ جزءا من القرآن ثم يجلس على الفراش فيقرأ جزءا من الحديث ثم ينام.
وكان سفيان يقول: سلونى عن التفسير والمناسك فإنى بهما عليم.
ومن أجل عناية الثورى بالقرآن يقول الأوزاعى:
لو قيل لى اختر رجلا يقوم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لاخترت لهما الثورى.
ومع عناية الثورى بالتفسير فانه لم يفسر القرآن على الطريقة المعروفة الآن وهى تتبع القرآن من أوله سورة سورة. وآية آية، حتى ينتهى إلى آخره، دون أن يترك آية بدون تفسير.
كان سفيان- إذن- يفسر آية من هنا وآية من هناك
…
إنه كان يفسر الآية التى تحتاج إلى نوع من الشرح والإيضاح الذى يحتاجه بعض الناس لقصورهم فى اللغة، أو لقصورهم فى الثقافة.
وإذا فسر الإنسان القرآن كلمة كلمة، وآية آية
…
وسورة سورة، على هذا النسق الحالى، فقد قيد القرآن- فى وهمه وفى وهم من اتبعه- بفكرته بثقافته، بعقليته، بهواه إن كان صاحب هوى
…
وما من شك فى أن أسلوب القرآن يتحكم فى المفسر، ولكن المفسر مهما حاول أن يستجيب إلى أسلوب القرآن فانه يجد مجالا للتأويل حتى يصل إلى ما يرى- بحسب مستواه- أنه حق.
ومع ذلك ومع كل ما قاله المفسرون مع قدماء ومن محدثين، ورغم مئات الشروح التى وضعت للقرآن فان القرآن ما زال غضّا نضرا جديدا، فياضا بالمعانى، سيلا بالإلهامات، ومن أجل هذه النضرة، ومن أجل ترك أبواب الإلهامات يوحيها القرآن كل يوم لقارئه، لم يفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن كلمة كلمة، وسورة سورة، وإنما هى كلمة من هنا وآية من هناك، بحسب الظروف والمقتضيات
…
وانظر مثلا كتاب التفسير فى صحيح البخارى أو فى صحيح مسلم أو فى غيره من كتب الصحاح فستجد أن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو على ما ذكرنا
…
ولم يحاول كبار الصحابة تفسير القرآن على الوضع المألوف عندنا الآن، ذلك لأنهم كانوا يرون أن القرآن فى انطلاقه الموحى وفى نظرته الملهمة باستمرار، وفى تأثيره الروحى والأخلاقى يجب أن لا تحده حدود، وأن لا تقيده قيود ذهنية بشرية.
ومن أجل بقاء استمرار القرآن فياضا بالهداية، لا يحجب نبعه الصافى
حجاب من مراء أو من جدل، التزم سلفنا الصالح الخطة المحكمة: تفسير كلمة من هنا أو آية من هناك، بحسب الظروف والأحوال
…
وسار سفيان الثورى على نسقهم، بل إنه فى الأغلب الأعم من تفسيره التزم أن يعزو كل رأى الى صاحبه، وأحب من الذين تحدثوا فى التفسير طائفة معينة، وآثر من بين هذه الطائفة «مجاهد»
…
ولم يكن للثورى تفسير للقرآن معروف منشور، وكان الذين يتحدثون عن الثورى فيما يتعلق بتفسيره للقرآن انما يأخذون من ذلك متناثرات فى مختلف الكتب.
ولكن توفيق الله سبحانه وتعالى صاحب الأستاذ «امتياز على عرشى» مدير مكتبة رضا ببلدة رامبور بالهند، فعثر على تفسير القرآن الكريم للثورى، رواه أبو جعفر محمد عن أبى حذيفة النهدى عن الثورى فصححه ورتبه وعلق عليه
…
بيد أن هذا التفسير الذى نشر فى سنة 1385 هـ- 1965 م لم يستوعب آراء الثورى فى التفسير ففي جلية الأولياء وفى تفسير الطبرى وفى غير ذلك من الكتب كثير من آراء الثورى فى التفسير.
ولعلنا فى المستقبل نجد شبابنا الذين يشرعون فى كتابة رسائل الدكتوراة، أو يحبون البحث العلمى الجاد ينقبون عن آراء الثورى فى التفسير، وينشرون قدر المستطاع كل آراء الثورى فى التفسير سواء صدرت عنه شخصيا أو اختارها من بين آراء الصحابة أو التابعين رضوان الله عليهم.
والثورى له جوانب كثيرة خصبة تحتاج الى دراسة، فهو صاحب مذهب فقهى لا يقل فى عمقه وفى صدقه عن المذاهب المشهورة، وهو مذهب لم يجد من تلاميذ الثورى من يقوم على نشره وهو منشور أيضا فى ثنايا كتب الفقه والتفسير والحديث.
ولعلنا نجد من شبابنا من يقوم بمهمة جمع آراء الثورى فى الفقه، فيكون لنا مذهب اتباعى من أصدق المذاهب وأخلصها.
وكان للثورى مسند فى الحديث يحتوى على آلاف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثورى ثقة فى الحديث، ولعلنا نجد أيضا من شبابنا من يتفرغ- ابتغاء مرضاة الله تعالى- لجمع أحاديث الثورى، واعادة مسنده من جديد
…
نموذج من تفسيره:
عن مجاهد فى قوله عز وجل:
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. (سورة البقرة الآية 166) قال: تواصلهم فى الدنيا.
وعن أبى جعفر فى قول الله تعالى:
وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ (سورة التوبة الآية 60) قال: الغارمين المستدينين بغير فساد.
وابن السبيل المجتاز من الأرض إلى الأرض.
وعن ابن عباس فى قوله تعالى:
أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً. (سورة مريم الآية 74) قال: الأثاث المال، والرئى المنظر.
وعن عكرمة قال: سئل ابن عباس:
أكان الليل قبل أو النهار .. ؟ فقرأ:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما. (سورة الأنبياء الآية 30) ثم قال: هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك ليعلموا أن الليل قبل النهار.
وعن مجاهد فى قوله:
سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ. (سورة الفتح الآية 29) قال: الخشوع والتواضع
…