الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روح البيان فى تفسير القرآن لاسماعيل حقى
إن هذا التفسير مشهور شهرة كبيرة تسمع به هنا وتسمع به هناك، وهو مشهور فى أوساط العرب، ومشهور فى أوساط العجم يعجب به أولئك ويقدسه هؤلاء، ألفه إسماعيل حقى ابن مصطفى الاسلامبولى.
وهو تركى ولد فى آيدوس، وتعلم كما كان طلبة العلم إذ ذاك يتعلمون:
العربية فى استفاضة حتى تزيل العجمة، وحتى تكون هى الطابع الغالب على طالب العلم، وتعلم الطالب إسماعيل حقى فى إطار اللغة: النحو والصرف وتعلم البلاغة بأقسامها وكان نابها نابغا فى المدارس فى الدرس ممتازا وفى القسطنطينية تعلم عن طريق العربية والتفسير والحديث والفقه، والعلوم الإسلامية على وجه العموم.
وكان يقف كثيرا أمام آيات القرآن التى تتحدث عن التقوى وعن القرب مثل:
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. (سورة التوبة: 112) ومثل:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
(سورة الأحزاب 35) ويقف عند الآيات التى تتحدث عن التوكل، ويبحث فى الجو الذى نزلت فيه وهكذا فى كل ما يتصل بالقلب فى القرآن الكريم.
أما فى الأحاديث الشريفة، فانه كان يطيل النظر فيما يسمى الرقائق، والرقائق كلمة يراد بها فى الحديث كل ما يتصل بالسرائر والبواطن تهذيبا واصلاحا، أو- على حد تعبير القرآن الكريم- تزكية، والله سبحانه وتعالى يقول:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها سورة الشمس: 9) ويقوده ذلك كله إلى أن يتجه شطر التصوف وينخرط فى سلك المريدين، وأخذ طريق الخلوتية.
وكان للطريق اذ ذاك منهج اصطلاحى يرقى بالمريد خطوة فخطوة إلى القرب من الله تعالى، ولم يكن الطريق سلبيا، وإنما الجهاد للنفس والجهاد فى المجتمع حتى تستقيم النفس ويستقيم المجتمع على أمر الله.
ولكن الجهاد فى المجتمع محفوف دائما بالاشواك وذلك أن الغرائز والشهوات والنزعات والفساد المختلف الألوان حينما يستشرى فى المجتمع، فان اقتلاعه مثير دائما للخواطر، ولم يبال اسماعيل حقى بهذه المخاطر، وإنما جابه المجتمع بكل ما يعتقد أنه حق، وثار ذوو الاغراض الفاسدة.
وكان إسماعيل حقى قد انتقل من القسطنطينية إلى «بروسة» وأعلن منهجه الاصلاحى وجاهد فى سبيله فنفى إلى «تكفور طاغ» .
وناله من الأذى الكثير: لقد اوذى فى نفسه وفى ماله واستمر الايذاء امدا من الدهر، ثم عاد إلى بروسة واستمر إلى أن مات سنة 1127 هـ 1715 م أما تآليفه فانه كان تارة يؤلف بالعربية: الرسالة الخليلية» فى التصوف.
وهى رسالة الخلة: شروطها وطريقها وثمرتها وغايتها، الخلة التى وصل
إليها سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما أصبح خليل الله، وهى درجة لا تتأتى لغير الأنبياء، ولكن وضعها كذروة يسير الانسان نحو انوارها ويهتدى بهديها وهو ما يجوز لغير الأنبياء: ان الله سبحانه وتعالى حينما يقول:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ سورة الأحزاب: 22) إنما أحب سبحانه أن نتخذ منه المنارة التى تسير نحوها فى اضوائها، والرسالة الخليلية إنما تنهج هذا المنهج.
ومن عادة كثير من كبار العلماء أن يختاروا أربعين حديثا من الاحاديث الشريفة ينتخبونها فى دقة ويذيعونها ويشرحونها يستشفعون بها إلى الله فى أن يكتب لهم النجاة ومن أشهرها «الأربعون النووية» التى جمعها الإمام النووى رضى الله عنه، وسلك الإمام إسماعيل حقى هذا المسلك فجمع من الاحاديث الشريفة أربعين وسماها «الأربعون حديثا» .
أما أثره الخالد فانه كتابه فى التفسير وهو تفسير لغوى بيانى صوفى، أى أنه جمع ميزة التفسير العادى الذى يلتزم أسباب النزول والآثار والقراءات، واللغة، وميزة التفسير الصوفى، ولعل مكانة هذا التفسير عند الصوفية لا تضارعها مكانة تفسير آخر ذلك أنه خلا من الشطح ومن المغالاة والتزم القصد والاعتدال مع اعتماد على الأثر واللغة.
وفيما يلى بعض الأضواء على جوانب من حياته وعلى ظروف تأليف التفسير، انه يقول: «وبعد: فيقول العبد الفقير سمى الذبيح الشيخ إسماعيل حقى الناصح المهاجر كلأه الله من فتن الغدايا والعليا والهواجر، لما أشار إلى شيخى الإمام العلامة، واستاذي الجهبذ الفهامة، سلطان وقته ونادرة زمانه، حجة الله على الخلق بعلمه وعرفانه، مطلع أنوار العناية والتوفيق، وارث أسرار الخليفى على التحقيق، المشهود له بسر التجديد فى رأس العقد الثانى من الألف الثانى، معدن الالهام الربانى السيد الثانى، الشيخ الحسيب
النسيب سمى بن عفان نزيل قسطنطينية، أمده الله وأمدنا به فى السر والعلانية، بالنقل إلى بروج الأولياء مدينة بروسا، صينت عن تطاول يد الضراء والبؤس فى العشر السادس من العشر العاشر من العقد الأول من الألف الثانى ولم أجد بدا من الوعظ والتذكير فى الجامع الكبير والمعبد المنير الشهير، وقد كان منى حين انتواء الاقامة ببعض ديار الروم، بعض صحائف ملتقطة من صفحات التفاسير وادوات العلوم، مشتمله على ما يزيد عن آل عمران، من سورة القرآن، ولكنها مع الاطناب الواقع فيها كانت متفرقة كأيدى سبا جزء منها حوته الصبا، وأردت أن الخص ما فرط من الالتقاط، وأضم إليها مما سنح لى من المعارف، وأجعله فى سمط ما أنظمه، وأسرد بانملة البراعة، وإن كنت قليل البضاعة قصير الباعة ما يليه إلى آخر النظم الكريم، ان أمهلنى الله العظيم إلى قضاء هذا الوطر الجسيم، وأبيض للناس قدر ما حررته فى الاسابيع والشهور وافرزته بالتسوية أثناء السطور ليكون ذخرا للآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون، وشفيعا لى حين لا يجدى نفعا غير الصاد والنون وأسأل الله تعالى أن يجعله من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، وباقيات الحسنات إلى آخر الاعمال، فانه إذا أراد بعبد خيرا حسن عمله فى الناس، وأهله لخيرات هى بمنزلة العين من الرأس وهو الفياض» اهـ ويقول فى آخر التفسير:
«هذا وقد تم تحرير روح البيان فى تفسير القرآن، فى مدة الوحى تقريبا لما أن أقصت الاقدار إلى أقاصى أقطار الأرض، وأيدى الاسفار النائية تداولتنى من طول إلى عرض، حتى أقامنى الله مقام الاتمام، فجاء باذن الله التمام يوم الخميس الرابع عشر من جمادى الأولى المنتظم فى سلك شهور سنة سبع عشرة ومائة وألف» اهـ وقد اتقن إسماعيل حقى الفارسية أيضا وكثيرا ما يستخدم الفارسية والتركية فى تفسيره فيورد أبياتا من الشعر بالفارسية أو التركية وجملا بهذه وبتلك.
وهاك نموذجا من تفسيره:
تِلْكَ الرُّسُلُ إشارة إلى الجماعة الذين من جملتهم النبى عليه الصلاة والسلام فاللام فى الرسل للاستغراق فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره، وأعلم أن الأنبياء كلهم متساوون فى النبوة لأن النبوة شىء واحد لا تفاضل فيها وانما التفاضل باعتبار الدرجات بلغ بعضهم منصب الخلة كإبراهيم عليه الصلاة والسلام ولم يحصل ذلك لغيره، وجمع لداود الملك والنبوة وطيب النعمة ولم يحصل هذا لغيره، وسخر لسليمان الجن والانس والطير والريح ولم يحصل هذا لأبيه داود، وخص محمدا عليه وعليهم السلام بكونه مبعوثا إلى الجن والأنس، ويكون شرعه ناسخا لجميع الشرائع المتقدمة، ومنهم من دعا امته بالفعل إلى توحيد الأفعال وبالقوة إلى الصفات والذات، ومنهم من دعا امته بالفعل إلى الصفات أيضا وبالقوة إلى الصفات والذات، ومنهم من دعا بالفعل وهو إبراهيم عليه السلام فانه قطب التوحيد اذ الأنبياء كانوا يدعون إلى المبدأ أو العماد وإلى الذات الأحدية الموصوفة ببعض الصفات الالهية الأحدية ولذا أمر الله نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعه بقوله ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (سورة النحل: 123) فهو من أتباع إبراهيم باعتبار الجمع دون التفصيل إذ لامتمم لتفاصيل الصفات إلا هو ولذلك لم يكن غيره خاتما فالانبياء وان كانوا متفاوتين فى درجات الدعوة بحسب مشارب الأمم إلا أن كلهم واصلون فانون فى الله باقون بالله لأن الولاية قبل النبوة حيث أن آخر درجات الولاية أول مقامات النبوة فهى تبنى على الولاية ومعنى الولاية الفناء فى الله والبقاء بالله فالنبى لا يكون إلا واصلا محرزا جميع مراتب التوحيد من الأفعال والصفات والذات مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أى فضله الله بأن كلمه بغير واسطة وهو موسى عليه الصلاة والسلام فهو كليمه بمعنى مكالمه واختلفوا فى الكلام الذى سمعه موسى وغيره من الله تعالى هل هو الكلام القديم الازلى الذى ليس من جنس الحروف والاصوات قال، الأشعرى وأتباعه المسموع هو
ذلك الكلام الازلى قالوا كما أنه لم تمتنع رؤية ما ليس بمكيف فكذا لا يستعبد سماع ما ليس بمكيف، وقيل سماع ذلك الكلام محال وانما المسموع هو الحروف والصوت وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ (سورة البقرة: 153) أى عمل درجات أى على درجات فانتصابه على نزع الخافض وذلك بأن فضله على غيره من وجوه متعددة أو بمراتب متباعدة والظاهر أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ثلاثة آلاف آية وأكثر ولو لم يؤت الا القرآن
وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتى الأنبياء لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات، وفى الحديث (فضلت على الأنبياء بست أوتيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب واحلت لى الغنائم وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بى النبيون)، قال فى التأويلات النجمية اعلم أن فضل كل صاحب فضل يكون على قدر استعلاء ضوء نوره لأن الرفعة فى الدرجات على قدر رفعة الاستعلاء كما قال تعالى: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (سورة المجادلة: 11) فالعلم هو الضوء من نور الوحدانية فكلما ازداد العلم زادت الدرجة فناهيك عن هذا المعنى قول النبى عليه السلام فيما يخبر عن المعراج أنه رأى آدم فى السماء الدنيا ويحيى وعيسى فى السماء الثانية ويوسف فى السماء الثالثة وادريس فى السماء الرابعة، وهارون فى السماء الخامسة، وموسى فى السماء السادسة وإبراهيم فى السماء السابعة وعبر النبى عليه السلام حتى رفع إلى سدرة المنتهى ومن ثم إلى قاب قوسين أو أدنى، فهذه الرفعة فى الدرجة فى القرب إلى الحضرة كانت له على قدر قوة ذلك النور فى استعلاء ضوئه وعلى قدر غلبات أنوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الانبياء بعضهم فوق بعض فلما غلب نور الوحدانية على ظلمة انسانية النبى عليه السلام اضمحلت وتلاشت وفنيت ظلمة وجوده بسطوات تجلى صفات الجمال والجلال فكل نبى بقدر بقية ظلمة وجوده بقى فى مكان من أماكن السموات فانه صلى الله تعالى عليه وسلم ما بقى فى مكان ولا فى الامكان لأنه كان غائبا عن ظلمة
وجوده باقيا بنور وجوده ولهذا سماه الله نورا وقال قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (سورة المائدة: 15) فالنور هو محمد عليه السلام والكتاب هو القرآن، فافهم واغتنم فانك لا تجد هذه المعانى إلا هاهنا، انتهى كلام التأويلات النجمية.