الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمام البيضاوى ومنهجه فى التفسير
هو الإمام عبد الله بن عمر بن محمد بن على الشيرازى، أبو سعيد أبو الخير ناصر الدين البيضاوى من قرية يقال البيضاء لها من بلاد فارس ولى القضاء بشيراز وفسر القرآن، وألف فى كثير من الفنون وتيسر له هذا المنصب بعد حادثة دلت على نبوغه، وكشفت عن عبقريته ..
لقد دخل تبريز، فصادف دخوله إليها مجلس درس قد عقد بها لبعض الفضلاء، فجلس القاضى ناصر الدين فى اخريات القوم، بحيث لم يعلم به أحد فذكر المدرس نكتة زعم أن أحدا من الحاضرين لا يقدر على جوابها، وطلب من القوم حلها، والجواب عنها، فإن لم يقدر فالحل فقط فان لم يقدر فإعادتها فلما انتهى من ذكرها شرع القاضى ناصر الدين فى الجواب فقال له:
لا اسمع حتى اعلم أنك فهمتها، فخيره بين اعادتها بلفظها أو معناها، فبهت المدرس، وقال: اعدها بلفظها، فاعادها ثم حلها وبين أن فى ترتيبه اياها خللا، ثم اجاب عنها، وقابلها فى الحال بمثلها، ودعا المدرس إلى حلها، فتعذر عليه ذلك، فاقامه الوزير من مجلسه، وادناه إلى جانبه وسأله من انت؟ فاخبره انه البيضاوى، وأنه جاء فى طلب القضاء بشيراز، فاكرمه، وخلع عليه فى يومه، ورده وقد قضى حاجته ..
كان إماما علامة، عارفا بالفقه والتفسير وأصول الفقه وأصول الدين والعربية والمنطق وكان عالما بفنون المناظرة وآداب المناقشة، صالح السلوك، مجتهدا فى العبادة، زاهدا فى متاع الدنيا الفانى، شافعى المذهب ..
قال ابن شهبة فى طبقاته عنه صاحب المصنفات، وعالم اذربيجان، وشيخ تلك الناحية وقال السبكى: كان إماما مبرزا نظارا صالحا معبدا ..
وقال ابن حبيب: تكلم كل من الأئمة بالثناء على مصنفاته، ولو لم يكن له غير المنهاج الوجيز لفظه المحرر لكفاه ..
صنف الكتب المهمة فى شتى الفنون الدينية، فصنف مختصر الكشاف، والمنهاج فى علم الاصول وشرح مختصر ابن الحاجب فى الاصول وشرح المنتخب فى الاصول للإمام فخر الدين، وشرح المطالع فى المنطق، والايضاح فى أصول الدين، والغاية القصوى فى الفقه، والطوالع فى الكلام، وشرح الكافية لابن الحاجب، وشرح المصابيح ولب اللباب فى علم الاعراب ما زال مخطوطا، والغاية القصوى فى دراسة الفتوى فى فقه الشافعية، وما زال فى عداد المخطوطات ..
ومن أهم مصنفاته تفسيره المشهور الذى قدم له فقال بعد الحمد والثناء.
وبعد: فان أعظم العلوم مقدارا، وارفعها شرفا ومنارا، علم التفسير الذى هو رئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع واساسها، لا يليق لتعاطيه والتصدى للتكلم فيه إلا من برع فى العلوم الدينية كلها- اصولها وفروعها، وفائق فى الصناعات العربية والفنون الادبية بانواعها، ولطالما أحدث نفسى أن اصنف فى هذا الفن كتابا يحتوى على صفوة ما بلغنى من عظماء الصحابة، وعلماء التابعين، ومن دونهم من السلف الصالحين، وينطوى على نكت بارعة، ولطائف رائعة، استنبطتها أنا ومن قبلى من افاضل المتاخرين، واماثل المحققين، ويعرب عن وجوه القراءات المعزية إلى الأئمة الثمانية المشهورين، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين إلا أن قصور بضاعتى يثبطنى عن الاقدام، ويمنعنى عن الانتصاب فى هذا المقام، حتى سنح لى بعد الاستخارة ما صح به عزمى على الشروع فيما اردته، والاتيان بما قصدته، ناويا ان اسميه بعد ان اتممه ب «انوار التنزيل، وأسرار التأويل» .
ثم شرع فى التفسير:- والمتأمل فى تفسيره يجد أنه قد نحا فيه نحو الاختصار، وركز فيه الافكار، ووجه الانظار إلى ما تشتمل عليه الآيات فى كثير من نواحى الاعراب والفقه والاصول ونحو ذلك، معتمدا على ما سبقه من التفاسير كتفسير الكشاف والرازى ونحوهما ..
وقد افاض العلماء فى الحديث عن هذا الكتاب محللين ومبينين، فقال السيوطى فى حاشيته عليه:- إن القاضى ناصر الدين البيضاوى لخص هذا الكتاب فاجاد، وأتى بكل مستجاد وماز فيه أماكن الاعتزال، وطرح موضع الدسائس وازال، وحرر مهمات، واستدرك تتمات، فظهر كأنه سبيكة نضار، واشتهر اشتهار الشمس فى رابعة النهار، وعكف عليه العاكفون، ولهج بذكر محاسنه الواصفون، وذاق طعم دقائقه العارفون، فاكب عليه العلماء تدريسا ومطالعة، وبادروا إلى تلقيه بالقبول رغبة فيه ومسارعة ..
وقال صاحب كشف الظنون:- تفسيره- أى البيضاوي- كتاب عظيم الشأن، غنى عن البيان، لخص فيه من الكشاف ما يتعلق بالاعراب والمعانى والبيان، ومن التفسير الكبير- رأى الرازى- ما يتعلق بالحكمة والكلام، ومن تفسير الراغب ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق ولطائف الاشارات، وضم إليه ما ورى زناد فكره من الوجوه المعقولة، فجلا رين الشك عن السريرة، وزاد فى العلم بسطة وبصيرة كما قال مولانا المنشى ..
اولوا الالباب لم ياتوا
…
بكشف قناع ما يتلى
ولكن كان للقاضى
…
يد بيضاء لا تبلى
ولكونه متبحرا فى ميدان فرسان الكلام فاظهر مهارته فى العلوم حسبما يليق بالمقام كشف القناع تارة عن وجوه محاسن الاشارة وملح الاستعارة، وهتك
الاستار الاخرى عن اسرار المعقولات بيد الحكمة ولسانها، وترجمان المناطقة وكيزانها، فحل ما اشكل على الانام، وذلل لهم صعاب المرام، واورد فى المباحث الدقيقة ما يدحض بعض الشبه المضلة، واوضح لهم مناهج الادلة والذى ذكره من وجوه التفسير ثانيا أو ثالثا أو رابعا بلفظ قبل فهو ضعيف ضعف المرجوح أو ضعف المردود ..
وأما الوجه الذى تفرد فيه وظن بعضهم انه مما لا ينبغى أن يكون من الوجوه التفسيرية السنية كقوله:
وحمل الملائكة العرش وخفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له، ونحوه فهو ظن من لعله يقصر فهمه عن تصور مبانيه، ولا يبلغ علمه الا الاحاطة بما فيه، فمن اعترض بمثله على كلامه كأنه ينصب الحبالة للعنقاء، ويروم أن يصيد نسر السماء، لانه مالك زمام العلوم الدينية، والفنون اليقينية، على مذهب أهل السنة والجماعة، وقد اعترفوا له قاطبة بالفضل المطلق، وسلموا إليه قصب السبق، فكان تفسيره يحتوى على فنون من العلم وعرة المسالك، وانواعا من القواعد المختلفة الطرائق، وقل من برز فى فن الأوصدة عن سواه وشغله، والمرء عدو لما جهله، حتى يسلم من الغلط والزلل، ويقتدر على رد السفسطة والجدل ..
واستطرد صاحب كشف الظنون فى الثناء على الكتاب وعلى صاحب الكتاب، حتى قال بحق:
ثم ان هذا الكتاب رزق من عند الله سبحانه وتعالى بحسن القول عند جمهور الافاضل والفحول، فعكفوا عليه بالدرس والتحشية، فمنهم من علق تعليقته على سورة منه، ومنهم من حشى تحشية تامة، ومنهم من كتب على بعض مواضع منه ..
ومن أشهر الحواشى عليه حاشية قاضى زاده (مطبوعة) وحاشية الشهاب الخفاجى (مطبوعة) وحاشية القونوى ..
هذا هو تفسير البيضاوى مختصر فى غير خلل، ومشتمل على الوان من العلم النافع، والخير الغزير، ويتضح ذلك بذكر نماذج منه:
قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ..
(سورة الأنعام: 161 و 162 و 163) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالوحى والارشاد إلى ما نصب من الحجج. (دينا) بدل من محل «الى صراط» إذ المعنى: هدانى صراطا، كقوله: ويهديكم صراطا مستقيما، أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ، (قيما) فعل من قام كسيد من ساد، وهو ابلغ من المستقيم باعتبار الزنة «الوزن» والمستقيم باعتبار الصيغة، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى:«قيما» على أنه مصدر، وكان قياسه قوما كعوض فاعل الاعلال فعله كالقيام، مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان لدينا حَنِيفاً حال من إبراهيم وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف عليه ..
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي عبادتى كلها، أو قرباتى، أو حجى وَمَحْيايَ وَمَماتِي وما انا عليه فى حياتى واموت عليه من الايمان والطاعة، او طاعات الحياة والخيرات والمضافة إلى الممات كالوصية والتدبير، أو الحياة والممات أنفسهما، وقرا نافع: محياى باسكان الياء اجراء للوصل مجرى الوقف لله رب العالمين لا شريك له، خالصة لا اشرك فيها غيره، وَبِذلِكَ القول أو الاخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لانه إسلام كل نبى متقدم على إسلام