الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ المراغى وتفسيره
ان المفسر الذى نتحدث عنه ليس هو المرحوم الشيخ أحمد مصطفى المراغى صاحب التفسير الكامل للقرآن الكريم المسمى: «تفسير المراغى» .
وانما هو الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر الأسبق، وقاضى قضاة السودان الأسبق، وقد ولد رحمه الله تعالى بقرية «المراغة» سنة 1298 هـ- وذلك يوافق سنة 1881 م، واخذ يتعلم القرآن وشيئا من العربية فى قريته، ولما استأهل لأن ينتسب الى الازهر سافر الى مصر والتحق بالأزهر.
واظهر نبوغا وذكاء وجدا فى التحصيل والدرس ولازم دروس الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده، ونهل من معينه، وهو يعد من مدرسته.
ونال شهادة العالمية فى سنة 1904 على حداثة سنه، فلم تكن العادة فى الأزهر أن ينال الانسان العالمية فى سن الخامسة والعشرين، وربما كان اذ ذاك اصغر من نال شهادة العالمية.
وفى السنة نفسها عين قاضيا فى السودان فى بلدة «دنقلة» واخذ ينتقل فى مناصب القضاء فى السودان حتى عين قاضى قضاة السودان.
وكان الشيخ فى هذا المنصب الذى يعتبر اكبر منصب دينى فى السودان يحتفظ للمنصب بكرامته وللاسلام بعزته.
ولقد كان الانجليز اذ ذاك متصرفين فى السودان فى كل كبيرة وصغيرة، وكان مندوبهم الانجليزى اكبر شخصية هناك.
وفى يوم من الايام اقيم احتفال دينى، وكانت العادة ان يجلس قاضى القضاة على يمين المعتمد الانجليزى ويتصدر المعتمد الحفل، ولكن الشيخ
المراغى أتى الى الحفل وتصدر المجلس ولم يكن هناك بد من أن يجلس المعتمد على يمينه او ان ينسحب الشيخ الجليل فتحدث ثورة الانجليز فى غنى عنها.
وجلس المعتمد البريطانى فى المكان الثانى واحتفظ الشيخ بكرامته كقاضى القضاة وقد ظل الشيخ فى منصب قاضى القضاة حتى سنة 1919 ثم جاء الى مصر وعين فى سنة 1920 رئيسا للمحكمة الشرعية العليا.
وجاء حدث فى اثناء تولية رئاسة المحكمة ان قضية ميراث ضخمة عرضت على المحكمة ودرسها الشيخ بما تستحق من عناية ودقة، سهر فيها ليلا، واطال النظر فيها نهارا حتى استبان له الحق من الباطل، والزيف من الصواب، وعلم اهل الباطل اتجاه الشيخ فارادوا عرقلة ذهابه الى المحكمة فرشوه وهو فى طريقه الى المحكمة بماء الناس، وقدر الله ان تكون المسأله خفيفة فاصر الشيخ على الذهاب الى المحكمة معارضا كل ما اراده اصدقاؤه من عدم الذهاب وحكم الشيخ بما رآه الحق.
وللشيخ امثال هذا كثير.
وفى مايو سنة 1928 عين شيخا للازهر، عين وسنه ثمانية واربعون عاما فكان اصغر شيخ عين شيخا للازهر.
وبدأ الشيخ فى قوة يعلن عن مبادئه فى الاصلاح بمذكرة مدوية اثارت الكثير من الجدل والنقاش والمعارضة، واشتد الامر حتى لقد آثر الشيخ ان يدع العمل وبقى قرابة ست سنوات بعيدا عن الازهر حتى عاد إليه مكرما معززا فى سنة 1935 واستمر به حتى وافاه القدر المحتوم فى رمضان سنة 1364 هـ.
والتفسير الذى نعنيه هنا ليس تفسيرا متكاملا، وانما هو تفسير السور او لاجزاء من بعض السور، ونشر عدة مرات فى الازهر، وفى أحد اعداد كتاب الهلال.
وها هو نموذج من التفسير:
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً. (الفرقان: 74) قرّة العين: هى السرور والفرح، مصدر من قرت عينك قرة، اى فرحت وسررت، لأن الفرح يجعل العين قارة، او لأن دمعة العين من السرور باردة.
والامام: الحجة المقتدى به ووحدت لانها مصدر، ولا تكاد العرب تجمع المصادر ووحد الامام لانه ذهب به مذهب الاسم لا الصفة، واذا ذهب به هذا المذهب وحد، ويكون معناه: حجة، تقول: هم امام- اى حجة، كما تقول: هم بينة، وقال بعضهم: ان الامام جمع آم، كصيام فى جمع صائم.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة جاهلة، على اشد حالة بعث عليها نبى فى فترة، ما يرون دينا افضل من عبادة الاوثان، فجاء بفرقان فرق بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى كان الرجل يرى ولده ووالديه واخاه كافرا وقد فتح الله قلبه للاسلام، وهو يعلم انه ان مات قريب له من هؤلاء دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم ان حبيبه فى النار، لذلك كان المسلمون يطلبون من الله ان يهب لهم من ذرياتهم وزوجاتهم من يطيع الله ويعبده لتقر عينهم بهذا، ومن الطبيعى فى النفوس ان يحب الشخص لذريته واهله ما يحب لنفسه، وان يتمنى الا تكون البيئة التى هو فيها تجعل العيش مريرا، وتذهب بالفكر وتقسمه، فلا يستقيم عيش، ولا تتجه النفس اتجاها كاملا الى الخيرات والعبادات والنفع العام.
من صفات عباد الرحمن ان يطلبوا ذرية صالحة مؤمنة وازواجا مؤمنات، ومن صفاتهم ان يطلبوا من الله زوجات عاليات فى التقوى والطاعة يشار اليها:
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (سورة الفرقان: 75 و 76) الغرفة: العلية، وكل بناء عال فهو غرفة، وقد ذكرت الغرفة واحدة والمراد الغرفات، لدلالة الواحدة على الجنس بدليل قوله سبحانه:
وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (سورة سبأ: 87) وقوله: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ (سورة الزمر: 20) والمراد بها الدرجات العالية فى الجنة والتحية: الدعاء بالتعمير، والسلام: الدعاء بالسلامة.
بين الله سبحانه انه اعد لعباده الموصوفين بالصفات السابقة جميعها جزاء على صالح اعمالهم هو الدرجات العالية فى الجنة، وفيها تتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام فيدعون لهم بالتعمير والخلود، ويدعون لهم بالسلامة، هذه الدرجات استحقها هؤلاء بصبرهم على الطاعات وعلى ترك الشهوات، وعلى اذى الكفار ومجاهدتهم، وعلى الفقر والمصائب، وغير ذلك مما يعرض للمؤمن من المكروه، وهذا دليل على ان المؤمنين يستحقون الجنة باعمالهم، وهذا الاستحقاق بوعد الله سبحانه، وهو صاحب الفضل فى وعد عباده بالجنة وبهذا الوعد استحقت الجنة.
يقول تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (سورة الحديد: 11) القرض: ما يدفع من المال على شرط رده، واذا وصف الله بالكرم فمعناه احسانه وانعامه الظاهران.
واذا وصف الانسان بالكرم فهو اسم للافعال والاخلاق المحمودة التى تظهر عليه، ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه، وكل شىء شرف فى بابه يقال له كريم.
سمى الله سبحانه قرضا ما ينفق فى سبيله وفى وجوه الخير ابتغاء مرضاته.
والقرض- كما سبق بيانه- ما يعطى على شرط الرد، ففي ذلك دلالة على انه سيرده الى المنفق، ثم ذكر صراحة انه سيعطيه اجرا كريما وانه سيضاعف هذا الاجر الكريم، ولا يوجد ما هو ابلغ فى الحث على الصدقة والاحسان من هذا التعبير يقول الله سبحانه: هذه يدى بسطتها اريد قرضا سارده وسأجزى عليه لكل كريما مضاعفا، فمن يسمع هذا ولا يبادر الى الاجابة ويتمم عقد القرض مع الله؟
فالجملة مسوقة مساق التمثيل، واثرها ظاهر فى النفس، وهى ابلغ من كل عبارة تقال فى الحث على الصدقة، وقد ذكروا ان يهوديا قال عند نزول هذه الآية: ما استقرض اله محمد حتى افتقر، فلطمه ابو بكر، فشكا اليهودى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي بكر: ما اردت بهذا؟ قال: ما ملكت نفسى ان لطمته، ولم يقلها اليهودى الا استهزاء وحمقا وجهلا.
وقد ذكروا فى شروط القرض الحسن وجوها:
ان يكون حلالا، فان الله طيب لا يقبل الا الطيب، وان لا يكون رديئا وان يعطى للاحوج فالاحوج، وان يكتم الصدقة ولا يتبعها المن والاذى، وان يقصد بها وجه الله دون الرياء، وان لا يستكثرها وان كانت كثيرة، وان تكون من المال المحجوب عنده وان لا يرى لنفسه عزة الغنى ويرى للفقير ذلة الفقر، وان يكون الانفاق فى حال رجاء الحياة وطول الامل.
وقد اكثر الله سبحانه فى القرآن من الحث على الصدقات وباساليب مختلفة، وفى سورة البقرة طائفة من الآيات نورد بعضها هنا تتمة لموضوع الصدقة.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ.
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ.
(سورة البقرة: 262، 263، 265، 267، 271، 272) ففي هذه الآيات ترغيب فى النفقة، وفيها شروط القرض الحسن التى، مر ذكرها وهناك احاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرغبة فى الصدقة، وكل هذا يدل على روح الاسلام وانه وجه للتعاون والتناصر، تحقيقا للوحدة التى يبتغيها، وتزهيدا فى المال اذا وجدت مصارفه، وبان موضوع الحق فيه.
وهذا يدل على قيمة المال، وعلى ان له قدرا عظيما، فإنه وسيلة الى تحصيل الاجر العظيم من الله، ووسيلة الى ان يعقد المؤمن مع الله قروضا،
وهو وسيلة فى اعزاز البلاد واعزاز الدين اذا ما تعرض المسلم للجهاد، فلا يجوز التزهيد فى المال على معنى عدم طلبه وعدم جمعه وانما يكون التزهيد فيه على معنى عدم جمعه وحبه الحب الموجب للادخار وكيف يزهد فى المال مع ان الله وعد منفقه بالاجر العظيم، وبالامن والمسرة حيث قال: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
استمر السلف الصالح يفهمون هذه الآيات ويعملون بها، فصانوا بلادهم وانفسهم وايدوا الوحدة الاسلامية والتضامن بين افراد الامة وقويت الروابط بينهم، فلم يحقد الفقراء على الاغنياء ولم ينظر الاغنياء الى الفقراء نظر المدل الفخور.
ثم نسى ذلك وقست القلوب، فظلم الناس فى جمع المال، وظلموا فى ادخاره، ولا سبيل الا بالرجوع الى الله وكتابه، ولا فلاح الا بالايمان والتقوى والانفاق فى سبيل الله.