الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضياء الاكوان للشيخ أحمد سعد العقاد
حينما تحدث علماء التفسير عن شروط المفسر فإنهم رأوا أن من بينها:
أن يكون المفسر تقيا. وما من شك أن التقوى من مصادر الالهام والفهم الصافى، حينما تتوافر الشروط الاخرى فى المفسر، وقد نشأ مؤلفنا فى بيئة دينية صالحة تقية. فقد كان من سلالة علماء صالحين اتقياء.
ولد بمدينة الفيوم عام 1307 هـ وتوفى عام 1373 هـ.
وبعد أن درس فى بلدته القرآن حفظا وتجويدا وأخذ حظا من علوم العربية، أخذ أهبته إلى مركز النور والمعرفة: الأزهر- الذي كان محط أنظار الطامعين المؤمنين واجتهد فى الدراسة فكان مرموقا لجده وذكائه.
وأرادت العناية الالهية به أن يلتقى بالعارف بالله السيد محمد ماضى أبو العزائم فوجهه نحو الاستقامة التي نشأ فى رحابها مؤلفنا وأصبحت الاستقامة بالنسبة له فطرة وتعليما، سلوكا ودراسة، ونشأ مؤلفنا اذن نشأة الشاب الذى لا صبوة له.
ولما انتهت الدراسة بالأزهر عينته وزارة الأوقاف أماما وخطيبا فى مسجد من كبار المساجد فاشتغل فيه بالتدريس للعامة وشرح كتاب الله وتعليم الفقه وغير ذلك من العلوم، وكان يقيد ما يدرس فخرج من ذلك بمجموعة كبيرة من الكتب فى العلوم الإسلامية.
منها ما طبع، ومنها ما زال مخطوطا، لم يطبع:
1 -
الدين النصيحة.
2 -
كنوز العارفين فى ميراث الأنبياء والمرسلين.
3 -
كتاب الهجرة النبوية.
4 -
كتاب مواهب الإنسان.
5 -
الأنوار القدسية فى شرح أسماء الله الحسنى.
6 -
السعادة فى الدخول من باب التوبة.
ومن كتبه التى ما زالت مخطوطة:
1 -
الفقه على المذاهب الأربعة.
2 -
ريحان العارفين فى حكمة أحكام الدين.
3 -
الشرف الأعلى فى اسراء من «دنا فتدلى» .
4 -
الإنسان الكامل.
5 -
مقامات أهل اليقين.
وأجل كتبه هو ما تقدمه اليوم: «ضياء الأكوان فى تفسير القرآن» .
يقول فى مقدمته:
«فقد عزمت بحول الله تعالى وقوته على كتابة تفسير للقرآن الكريم يكون سهل العبارة ريق الإشارة يجمع بين جمال تفسيره وأسرار تأويله، متحريا فى ذلك الصحيح من الأقوال مجتنبا الحشو والتطويل.
وان الكثير من التفاسير فيه أقوال ضعيفة وتواريخ مكذوبة، وآراء متعارضة، وسأتحرى بمشيئة الله ما يوافق الشرع ويتمشى مع العقل.
وقد وضع المؤلف لكتابه مقدمة: «تكشف لقارئها بعض أسرار القرآن» .
ومن هذه المقدمة يقول تحت عنوان: «الآيات القرآنية» :
كل آية فى القرآن بمنزلة دواء مستقل أو كنز للسعادة، منها آيات يخاطب الله بها العقول على قدرها بقوله:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (الروم: 24) والعقل هو الذى يتقبل الآيات بالموازين والقوانين ويحكم على الأشياء بقدر ما وهب له من الاستعداد النورانى، ويخاطب الله الألباب بقوله:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
واللب هنا هو الروح التى بها حياة القلب التى بها الاستعداد للتلقى عن الله، ومنها آيات يخاطب الله بها الفكر فى قوله تعالى:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: 21) والفكر قوة تتجول فى الآثار وترجع بالمعلومات وتعرضها على العقل فيثبت منها ما شاء فهو وزير العقل.
ومن الآيات ما يخاطب الله به القوة الذاكرة، وهى المعبر عنها بالحافظة فى قوله: إنّ فى ذلك لآيات لقوم يتذكّرون.
والذاكرة قوة تبحث عن معلوماتها الأولية التى اشتغلت عنها بالمظاهر الحسية، فبالتذكر يصل العبد إلى ذكر العهود الأولية، وذكر النعم الالهية الظاهرة والباطنة.
ولم ترد آية فى القرآن تقول: إن فى ذلك لآيات لقوم يتخيلون أو لقوم يتوهمون فما أوقع الناس فى التيه والغرور الا شيطان الوهم وزخارف الخيال والقرآن يتكلم فى صميم الحقائق والرجل من تباعد عن الخيالات والأوهام وتمسك بالحقائق الناصعة.
ومن الآيات ما يخاطب بها أهل العلم والعرفان بقوله:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (الروم: 22) ويخاطب أهل الإيمان بقوله:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الروم: 37) والإيمان قوة فى القلب تفتح له عيونا يشرف بها على معانى الهيبة الالهية والجلال فيؤمن بالغيب ويرى أن كل السمعيات التى وردت عن الشارع الحكيم كأنها مشهودة أمامه ويخاطب الله أهل السمع بقوله:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (الروم: 23)
والسمع الحقيقى اذن واعية فى القلب صاغية لنداء الرب، والاذن الحسية بمنزلة السماعة التى توصل للقلب الخطاب.
ومن الآيات ما يخاطب الله بها أهل الكشف النورانى والذوق الروحانى بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (الحجر: 75) والمتوسم هو الذى يعرف العوالم بسيماهم ويكشف ما وراء استار المادة بالنور الالهى فى ضميره.
ومن لآيات ما يخاطب الله بها أهل اليقين بقوله:
إنّ فى ذلك لآيات لقوم يوقنون.
واليقين قوة الهية تكسب العبد رسوخا وثباتا وتكشف عنه الحجب.
ويخاطب الله المحسنين: والإحسان قوة فى القلب تجعل العبد يحسن ألفاظه وأعماله ونيته، ويلاحظ أن الله معه بسمعه ويراه. قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (آخر أية فى سورة العنكبوت) ويخاطب الله أولى الأبصار بقوله:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ.
والبصر ما يدرك ظواهر الكون ويوصلها الى حدقة عين القلب، والبصيرة ما تدرك الأمور الخافية ولا يكمل العبد إلا إذا كان يتدبر فى الآيات الظاهرة ويتجول في الآيات الباطنة.
فإذا قال الله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإنه يقول:
يا أهل العقول اننى أتحدث معكم الآن فتدبروا واعتبروا، وإذا قال:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الروم: 37) كأنه يقول: يا أهل الإيمان سلموا تسعدوا، وإذا قال لقوم يتفكرون قال: يا أهل التفكير تجولوا فى الآثار فتغنموا، فانزل كل آية فى رتبتها الخاصة وتناول دواءها الخاص حتى تعرف الأدوية الروحية القرآنية «والله أعلم» ا. هـ.
والآن نأتى بنموذج من تفسيره:
قوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ (البقرة: 45) أراد الحق تعالى أن يصف دواء نافعا للامراض القلبية فبين دواء مركبا من عنصرين:
الأول: الصبر، وهو حبس النفس عن شهواتها طلبا للثواب من الله تعالى، والصبر أساس كل فضيلة، وما وصل إنسان إلى المعالى الاعلى معراج الصبر، والصبر أقسام:
- صبر على طاعة الله وجهاد النفس، وصبر عن معصية الله ومحارمه.
- وهناك صبر مذموم وهو الصبر عن حبيبك وهو الله تعالى فتنساه وتتسلى بغيره
…
ومتى تعود العبد الصبر وتخلق به صار صبورا والصابر يعطى أجره بغير حساب. قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
والصوم من الصبر لأنه يمنع النفس عن شهواتها.
قوله: «والصلاة» هى الخضوع والخشوع لله بالقلب والجوارح، ومتى تمكن العبد من الصبر فى طوايا نفسه والخشوع فى ضميره وجوارحه فقد استعان على تزكية نفسه وتطهيرها واقبالها على الله، وكأن النفس وحظوظها كجيش محارب والسلاح الذى يقهرها هو الاستعانة التى وصى بها الله بالصبر والصلاة.
قوله: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ يعنى الصلاة كبيرة يعنى ثقلية على النفوس.
قوله: إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ يعنى الاستعانة بالصلاة سهلة لذيذة على أهل الخشوع وهم الذين عرفوا الله وطلبوا رضاه واعتقدوا أن الدنيا دار سفر فصبروا على مشاقها وأن الصلاة قرة أعينهم لأنها تدخلهم فى حضرة مولاهم وتؤنسهم بجنابه، أ. هـ وتنبهت القلوب وكأنها قالت: يا رب بين أهل الخشوع لنعرفهم. فقال تعالى:
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ (البقرة: 46) يعنى يوقنون ويعلمون علم يقين أنهم سيلقون الرب تعالى ومعنى لقاءه تعالى- هو كشف الستائر الحاجبة للعبد عن الله فيراه قريبا مجيبا محيطا، العارفون بالله يكرمهم الله بلقائه هنا، فتشهد عيون أرواحهم أنوار وجهه الجميل، وأسرار تجلياته فيأنسون به فى كل مشهد ومظهر، وإنما عبر هنا بيظنون ولم يقل يوقنون رحمة بعباده فإنهم يشهدون من تجلياته على قدرهم، والحقيقة فى غيب الغيب والحق تعالى يقول فى الحديث القدسى:
«أنا عند حسن ظن عبدى بى» فالظن منك فى شهود الأنوار يقين عند الله واليقين هو كشف الأمر على ما هو عليه وهو لا يتمكن منه أى مخلوق عند مواجهة الحقيقة ولقاء الله الحق عند الخاصة يكون كرامة لهم هنا بعيون الروح لا بعيون الرأس، وفى الآخرة يكون بالعينين.
قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ.
(القيامة: 22، 23) قوله: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ يعنى بالموت ومفارقة الحياة:
ينسلخون من الغواشى والهيكل وتتخلص أرواحهم من الظلمات وترجع إلى أصلها، وهو النور فيتجلى لها النور جل جلاله، أ. هـ.
ونموذج آخر:
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ (البقرة: 124) سبق فى علمه تعالى أن يبتلى العباد، والابتلاء هو الاختيار والامتحان الذى يكشف مكنون النفوس ويوضح غوامض الضمائر ولم يكن الامتحان لتجديد علم بل الحق تعالى يعلم ضمائر الخلق، ويرى الملبى والمخالف ولكن قدر ذلك لتظهر تلك الحقائق مشهودة للخلق فتكون شرفا للمطيع وحجة وسندا للمؤمن وتكون بلية على العاصى وإظهارا للكامن فى نفسه من الخبث والقساوة
والجحود والامتحان قدره الله على الملائكة فى خلق آدم وعلى ابليس فى السجود لآدم وعلى الأنبياء فى تحمل البلايا، وعلى الأولياء فى القيام بالجهاد الشديد للنفس والدنيا وقدره على بنى الإنسان أجمع ليقف كل إنسان عند حده فلا يدعى الولاية الشديدة مخالف ولا يدعى التقوى عاص، حكمة بالغة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أشدكم بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل، فالامثل» والذى يثبت فى الامتحان وينال شهادة من الله بها رفعة شأنه وعلو قدره واحترامه فى الدنيا والآخرة والكلمات هى الأوامر الالهية التى كلف الله بها خليله وقدرها عليه فصبر وثبت ورضى، فمن ذلك: ابتلاه بالرمى فى النار، ومن ذلك ابتلاه بأخذ السيدة هاجر وابنها إسماعيل والتوجه بهما إلى أرض الحجاز بجوار الكعبة حيث لا ماء ولا ظل ولا أنيس، فثبت وسلم ولده وزوجته لله تعالى فهو أرحم من إبراهيم بولده وزوجته، ومن ذلك ابتلاه بذبح ولده إسماعيل وكلفه ببناء البيت والقيام بإرشاد الحق له بأعمال الفطرة الحنيفة فنفذ الخليل كل ذلك، فشهد له الحق بقوله (فاتمهن) يعنى قام بالواجب بصدر رحب وعزم صادق فلما وفى نال مقام الوفاء فمنحه الله مقام الصفاء وأعلى ذكره فى القرآن وبشره بعد الثبات فى الامتحان بقوله:«قال إنى جاعلك للناس إماما» يعنى صيرتك قدوة للعباد، والسيد إبراهيم محبوب عند كل طوائف الامم ومعناه أب رحيم وهو من ذرية سام ابن نوح عليه السلام، وكأن الحق تعالى يقول إننى لم أمنح خليلى رتبة التقدم والامامة إلا بعد الامتحان والنجاح فيه وقد امتحن الله المؤمنين بقوله:
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ.
(العنكبوت: 2) ولما بسط الحق بساط الانس والمال للخليل وبشره بالبشرى التى تشرح الصدور بقوله إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً طمع الخليل فى وسعة الحق وكرمه فطلب منه نفحة لذريته بقوله قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يعنى اجعلهم ائمة للعالم، فقال الحق قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (البقرة:
24) يعنى لا يدعوك تلطفى معك وأنك بعطفى أن أغير شيئا مما فى علمى فاجعل الظالم مقدما محترما فإن كل مخالف من ذريتك لا ينال عهدى يعنى مودتى وكرمى ورحمتى ونعمى، وفى هذا الرد على الخليل من الحق ما يجعل قلوب العارفين تخشع وتمتلئ بالهيبة من جلال الحق، وقد قال العارفون: اذ انبسط لك الحق بجماله فانقبض وتأدب معه وإذا تجلى لك بجلاله فانهض وافرح، فى حضرته فمهما أعطاك فكن على حذر فالسيد الخليل مع جلالة قدره طلب لذريته مطالب فأجابه فى البعض ولم يجبه فى الآخر فلا تركن الى أبيك وشرفه ومجده وانظر هل أنت ظالم لنفسك أم عادل؟