الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معانى القرآن لأبى زكريا الفراء
كان والده زياد الأقطع محبا لآل البيت، متفانيا فى حبهم.
وكلمة «الأقطع» فى اسم والده هى وسام شرف ألحق باسمه بسبب حبه لآل البيت، فقد قطعت يده فى حربه مع سيد الشهداء الإمام الحسين رضى الله عنه:
وإذا كان هناك من يسمى: أمير المؤمنين فى الحديث- كسفيان الثورى- فإنه كان يحلو لثعلب العالم الكوفى الكبير أن يسمى الفراء: أمير المؤمنين فى النحو وهو لقب استحقه الفراء بجدارة.
وإذا كان قد بلغ القمة فى النحو، فإن ابن خالته هو محمد بن الحسن الفقيه الشيبانى صاحب أبى حنيفة كان قمة فى الفقه.
ومن أظهر أساتذة الفراء: على بن حمزة الكسائى- فى النحو، وسفيان بن عيينة فى الفقه والحديث.
وكان الفراء معنيا بعلم القراءات- وأجاده إجادة كبيرة وقد أخذه عن الكسائى، ومحمد بن حفص.
وهذه العقلية التى تمحضت- أو كادت- لدراسة علوم اللغة والنحو وما إليهما لا يأتى أن يكون عندها الاستعداد الفطرى لعلم الكلام ولكن طموح الفراء أبى إلا أن يحاول إتقان علم الكلام فاخفق وذلك لأن طبيعته هى طبيعة النحويين، وعن ذلك يقول أديب العربية أبو عمرو الجاحظ:
«دخلت بغداد سنة أربع ومائتين حين قدم إليها المأمون- وكان الفراء يحبنى، ويشتهى أن يتعلم شيئا من علم الكلام، فلم يكن له فيه طبع.
لقد أخفق فى دراسة علم الكلام، ولكنه كان يحب أن يشتهر بالاعتزال والفلسفة، وليس له فيهما قدم.
وأما تظاهره بذلك، فإنما كان تقربا للمأمون. فإنه ما كان أحد يتقرب منه إلا إذا كانت له ميول اعتزالية، ومرن لسانه على استعمال مصطلحات فلسفية.
ومع إخفاقه فى علم الكلام، فإنه برع فى علوم كثيرة، يقول ثمامة بن اشرس- وهو من أئمة المعتزلة، وكان مقربا من المأمون- يقول عن الفراء:
رأيت له أبهة أدب فجلست إليه، فناقشته عن اللغة، فوجدته بحرا وعن النحو، فشاهدته نسيجا وحده، وعن الفقه: فوجدته فقيها عارفا باختلاف القوم، وفى النجوم: ماهرا، وبالطب: خبيرا، وبايام العرب واشعارها: حاذقا.
واشتهر الفراء وذاع صيته، فاستدعاه الرشيد، وأنس له، وجنى الفراء من وراء ذلك ثروة ومنزلة فألف التردد على أبواب الأمراء والملوك فقد اتصل بالمأمون، ويروى المؤرخون له أن المأمون عهد إليه أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو، وما سمع من العرب، فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار. ووكل بها جوارى، وخدما للقيام بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه، ولا تتشوق نفسه إلى شىء حتى أنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة، وصير له الوراقين، والزمه الأمناء والمنفقين، فكان الوراقون يكتبون حتى صنف كتاب الحدود، وأمره المأمون بكتبه فى الخزائن.
وأنس المأمون به كما أنس الرشيد، وأدناه المأمون إلى درجة أن وكل إليه تعليم أبنائه ومع أنه كان يتردد على أبواب الأمراء والوجهاء والملوك، فقد كانت له ميزات حسنة نذكر منها:
أنه كان متقشفا بطبيعته، وكان المال الذى يأتيه فى أثناء العام يجمعه إلى موعد معين يفارق فيه بغداد إلى الكوفة، حيث أهله وعشيرته فيمكث بالكوفة
أربعين يوما بين أهله وعشيرته يتفقد أحوالهم ويتودد إليهم وينفق عليهم ما ادخره أثناء العام، ثم يعود من جديد إلى بغداد
…
وصلة الأرحام من أنفس القربات فى دين الإسلام الحنيف ومن الأمور التى تذكر بالخير للفراء هذا الموقف الكريم.
يروى ابن النديم خبرا يحكيه أبو العباس ثعلب أن السبب فى إملاء الفراء «الحدود» هو أن جماعة من أصحاب الكسائى صاروا إليه وسألوه أن يملى عليهم أبيات النحو ففعل، فلما كان المجلس الثالث قال بعضهم لبعض: إن دام هذا على هذا علم النحو الصبيان والوجه أن يقعد عنه:
فغضب وقال: سألونى القعود- يعنى للمحاضرة والإملاء- فلما قعدت تأخروا، والله لأملئن النحو ما اجتمع اثنان- فأملى ذلك ست عشرة سنة! ووثق به المأمون وبعلمه، فاتخذه معلما لاولاده.
ونأتى الآن إلى (كتاب المعانى) ويذكر ثعلب أن السبب فى تأليفه أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفراء أن الأمير الحسن بن سهل ربما سألنى عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرنى فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لى أصولا، أو تجعل فى ذلك كتابا أرجع إليه فعلت! فقال الفراء لأصحابه:
اجتمعوا حتى أملى عليكم كتابا فى القرآن- وجعل لهم يوما حضروا فخرج إليهم، وكان فى المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس فى الصلاة وكان يكتب عن الفراء الوراقون- وهم تجار الكتب- ومع أن عدد من كان يحضر الدرس لا يكاد يحصى فإن الذى حرص على الكتابة هم: الوراقون ولما انتهى الفراء من الإملاء خزن الوراقون الكتاب ليبيعوه بثمن مرتفع جدا، وشكا الناس إلى الفراء فاحضر الوراقين وأخذ يتحدث معهم فى خفض ثمن النسخ فلم يفلح معهم وذلك لجشعهم.
لقد أعلنوا أنهم ينسخون الخمس ورقات بدرهم، ولم يجد معهم الحديث الإنسانى! وعند ذلك أعلن الفراء أنه سيملى من جديد، وبدأ فعلا، وجاء الناس باقلامهم ومحابرهم ولما رأى الوراقون ذلك أتوا إلى الفراء ورضوا أن ينسخوا كل عشر ورقات بدرهم، وتم الاتفاق على ذلك.
وعن هذا التفسير بقول ثعلب:
«لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه» .
وقد كان من الطبيعى أن الفراء كان مهمّا- وفى الدرجة الأولى- بالنحو كعلم له خطره. من بين العلوم، ثم استخدمه فى تفسير القراءات وتعليل وجوهها من العربية ويمكن أن يقال ان اهتمامه الزائد بالقراءات هو الذى جعله يهتم اهتماما مماثلا بالنحو! والقراءات ليست علما للعلم فقط. وإنما هى مرتبطة بالمعنى ارتباطا وثيقا، ومن هنا كان اهتمام كثير من المفسرين بها.
وكما اهتم بالقراءات وبالنحو، فإنه اهتم بأسباب النزول واهتم من قبل ذلك ومن بعد بجمال الأسلوب القرآنى، وبالمعنى اهتماما كبيرا، وما كان ذلك إلا من أجل الدقة فى بيان المعنى لتقريره.
نماذج من تفسيره:
ونذكر هنا عددا من النماذج المختصرة:
ففي مجال اهتمامه بتوجيه القراءات وما تدل عليه من معنى يذكر فى تفسير قوله تعالى من سورة النجم.
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ.
(الآية 32) يقول: قرأ يحيى بن وثاب «كبير» وفسر عن ابن عباس أن كبير الإثم هو: الشرك فهذا موافق لمن قرأ «كبير الاثم» بالتوحيد- يعنى: الإفراد دون
الجمع «كبائر» -
…
ثم يقول الفراء: وقرأ العوام: كبائر الإثم والفواحش- فيجعلون كبائر كأنه شىء عام وهو فى الأصل واحد، وكانى استحب لمن قرأ «كبائر» أن يخفض «الفواحش»
…
قال الفراء: وما سمعت أحدا من القراء خفض «الفواحش»
…
وعن جمال الأسلوب القرآنى الذى يكشف عنه الفراء نجد تفسيرا لقوله تعالى:
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً
…
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً .... (سورة العاديات الآية 1، 2، 4،) قال: يريد به الوادى- ولم يذكر «الوادى» قبل ذلك وهو جائز لأن الغبار لايثار إلا من موضع. وإن لم يذكر إذا عرف اسم الشيء كنى عنه، وإن لم يجر له ذكر.
قال الله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. (سورة القدر الآية 1) يعنى القرآن وهو مستأنف سورة، وما استأنفه فى سورة إلا كذكره فى آية قد جرى ذكره فيما قبلها كقوله حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ.
وقال تبارك وتعالى:
إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ. (سورة ص الآية 32) يريد: الشمس، ولم يجر لها ذكر.
وفى مجال اهتمام الفراء بالصناعة النحوية نجد له بعض النوادر الجملية.
ففي قوله تعالى:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ.
(سورة الزمر الآية 80) يقول الفراء: نسى ما كان يدعو إليه: ترك الذى كان يدعوه إذا مسه الضر، يريد الله تبارك وتعالى.
فإن قلت فهلا قال: نسى من كان يدعوه، قلت: إن «ما» قد تكون فى موضع «من» قال الله تبارك وتعالى:
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. (سورة الكافرون الآية 1، 2، 3،) يعنى الله تبارك وتعالى.
وقال عز وجل.
فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.
(سورة النساء الآية 3) فهذا وجه وبه جاء التفسير- ومثيله: «أن تسجد لما خلقت بيدى» وقد يكون نسى ما كان يدعو إليه يراد به:
نسى دعاءه إلى الله عز وجل من قبل، فإن شئت جعلت الهاء فى قوله «إليه» .
وإن شئت جعلتها لله عز وجل، وكل مستقيم
…
نفع الله الناس بتفسير الفراء وبعلمه الغزير.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.