الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معانى القرآن للزجّاج
بدأ القرآن بالبحث عن العلم، وكانت أول كلمة فى الوحى هى:
«اقرأ» .
وأخذ المسلمون يندفعون حول العلم اتباعا لتوجيه القرآن الكريم، حتى ولو لم يكن عند البعض منهم الجو المهيأ لدراسة العلم.
وهذا واحد هو نموذج لفئة كبيرة من أمثاله، لم تكن ظروفهم الأولى مواتية للتفرغ للعلم، ولكنه جاهد وثابر، وبذل كل ما يستطيع حتى احتل المكانة التى يتمتع بها العلماء من جاه وثراء.
إنه أبو إسحاق الزجاج:
نشأ فى بيئة متواضعة فى القرن الثالث، الهجرى سنة إحدى وأربعين ومائتين من الهجرة، ولكنها ذات خلق كريم فاضل، وهيأته البيئة الأولى إلى أن يعمل فى الزجاج، ومن هنا كانت نسبته المشهورة «الزجاج» التى يعرف بها بين كبار العلماء والأعلام.
كان يخرط الزجاج، وقبل ذلك كان قد حصل شيئا من العلم، فكان يشتغل أثناء فراغه بالتعليم، ولاحظ فى نفسه ميلا شديدا إلى دراسة النحو فكان يقتصد من قوته، ويشترى من الوراقين بعض ما يمكنه من إرواء رغبته فى كتب النحو، يسهر فى دراستها ليله، ويقرأ فيها أثناء فراغه نهارا.
ولما رأى نفسه معدة للفهم والتلقى عن العالم الكبير أحمد بن يحيى المعروف بثعلب «النحو» على مذهب أهل الكوفة- فأخذ الزجاج ينظم وقته بحيث يحضر درس هذا العالم الشهير.
ثم بعد ذلك انتقل إلى عالم كبير هو أبو العباس المبرد صاحب كتاب
الكامل الذى صارت شهرته فى الآفاق- وثقف الزجاج من ثقافته الواسعة حتى أخذ فى الظهور واتسعت شهرته لعلمه الغزير ولخلقه الكريم، وأدبه الجم، وعقيدته السليمة.
وقد استدعاه الوزير عبيد الله سليمان بن وهب، وتحدث إليه فرأى علما غزيرا، وأدبا رفيعا، ونفسا متواضعة فلم يزده علمه إلا تواضعا وأدبا. إنه العلم النافع.
وأخذ الوزير يستدعيه من آن لآخر، وفى كل مرة يزداد إعجابه حتى إذا ما وثق به تماما وكل إليه تعليم ابنه القاسم- فن الأدب العربى.
ومضت السنوات، وجاء الوقت الذى تولى الوزارة فيه: القاسم بن عبيد الله تلميذ الزجاج الوفى- فأغدق على الزجاج ما جعله ينعم بحياة أكثر ترفا ونعيما.
ولم تصرف هذه الحياة الزجاج عن الاستمرار فى طلب العلم، بل ربما مكنته من الإزدياد فى طلبه، وكان شعاره هو الشعار الإسلامى:
رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. (سورة طه الآية 114) وأخذت- لذلك- شهرته تنتشر وتذيع، حتى طلبه الخليفة العباسى المكتفى بالله وانخرط الزجاج فى مجلس المكتفى بالله، ورأى المكتفى منه ما رآه الوزير من علم غزير وأدب كريم فجعله نديما من ندمائه.
وأقبلت على الزجاج الدنيا من أوسع أبوابها، ولكن ذلك لم يصرف الزجاج عن وجهته، وإنما كان يجلس مدرسا، والتف حوله العلماء يسمعون ويستفيدون، وتتلمذ له كبار العلماء.
وكان من تلاميذه: أبو على الفارسى، صاحب الشهرة الكبيرة فى اللغة والأدب، وتتلمذ عليه الكثيرون الذين كان لهم الأثر البالغ فى النحو واللغة.
ومن أنفس ما ألفه الزجاج هو كتابه فى تفسير القرآن:
لقد كتبه فى فترة بلغ فيها قمة النضج الفكرى من حياته، واستغرق هذا التفسير حوالى ست سنوات وتفسيره هذا يمتاز بأمرين:
أحدهما: أنه تفسير بالمأثور، وذلك أن الزجاج يذكر الآية، ثم يروى فيها ما أثر عن أسلافنا رضوان الله عليهم، ولكنه لا يذكر ما روى فيها دون اختيار وانتقاء، وإنما يختار الأحسن والأوفق الذى يتفق مع ما يراه يتمشى مع الأسلوب العربى السليم ومع الجو الإسلامى العام، فتفسيره بالمأثور لم يكن مجرد جمع عن السابقين، وإنما كان إيرادا على روية وتدبير وتفكير.
أما الأمر الثانى الذى برع فيه الزجاج فهو: التخريج النحوى للآيات الكريمة التى تحتاج إلى إيضاح نحوى، ومن هنا كان الزجاج يروى رغبته فى استمتاع بادائها ..
والكتاب يطبع الآن لاول مرة فى طبعة محققة تحقيقا متقنا، وذلك ما يقوم به الدكتور عبد الجليل شلبى من علماء الأزهر، وقد أخرج منه جزءين كبيرين، وسيخرج الباقى تباعا إن شاء الله وكان لهذا التفسير أثره الكبير فيمن أتى من المفسرين من بعد:
لقد تأثر به مثلا صاحب كتاب «الكشاف» «الذى كان معنيا بالنحو والبلاغة.
وكما ناقش الزجاج من كتبوا قبله من معانى القرآن، أو كتبوا فى مجازه وبلاغته، فإن تلميذ الزجاج الامام: أبو على الفارسى قد أخذ نفسه- مع إعجابه باستاذه- يتتبع كل ما أرى أن استاذه أخطأ فيه، سواء كان الخطأ صريحا أو خلاف الأرجح.
ثم أخذ يعرضها مسألة مسألة، ثم يعرض رأيه هو فيها محللا وناقدا لها.
وقد سمى كتابه اسما له مغزاه، لقد سماه:«الاغفال» وكان مؤدبا فى التسمية مراعاة إلى استاذه، أنه يريد أن يقول:
إن ما لاحظه مجرد إغفال من استاذه، وقال فى أوائل هذا الكتاب «الاغفال» هذه الكلمات المهذبة:
هذه مسائل من كتاب أبى إسحاق فى اعراب القرآن ذكرناها لما اقتضت
عندنا من الايضاح عنها للإغفال الواقع فيها
…
، ونحن ننقل كلامه فى كل مسألة من هذه المسائل بلفظه وعلى جملته عن النسخة التى سمعناها منه فيها ثم نتبعه بما عندنا
…
»
ومع هذا الأسلوب المهذب قد يتساءل إنسان فيقول:
ما دام أبو على الفارسى سمع التفسير من الزجاج فلم لم يناقشه اثناء الشرح والسماع؟ والجواب عن ذلك:
قد تكون هيبة الزجاج هى التى منعته من ذلك ولكن الأقرب فى الإجابة أن الفارسى لم يكن إذ ذاك قد وصل فى النضج العلمى إلى الدرجة التى تمكنه من الملاحظات على استاذه فلما نضج بمرور الزمن رأى من الوفاء عليه لاستاذه أن ينبه على «الاغفال» وها هى نماذج من تفسيره: لقوله عز وجل:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ (سورة البقرة الآية رقم 269) معنى «يؤتى» يعطى، والحكمة فيها قولان: قال بعضهم هى النبوة، ويروى عن ابن مسعود أن الحكمة هى القرآن، وكفى بالقرآن حكمه، لان الأمة به صارت علماء جيلا بعد جيل، وهو وصلة إلى كل علم يقرب من الله عز وجل، وذريعة إلى رحمته، ولذلك قال الله تعالى:
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (سورة البقرة الآية رقم 269) ومعنى وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي ما يفكر فكرا يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا أولوا الألباب، أى ذووا العقول.
وقوله عز وجل: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ هذا من نعت أولى الألباب، أى فهؤلاء يستدلون على توحيد الله- عز وجل بخلقه السموات والأرض وأنهم يذكرون الله فى جميع أحوالهم «قياما وفعودا وعلى جنوبهم» .
معناه ومضطجعين، وصلح فى اللغة أن يعطف بعلى على «قياما وقعودا» لان معناه ينبئ عن حال من أحوال تصرف الإنسان، تقول:
أنا أسير إلى زيد ماشيا وعلى الخيل. المعنى ماشيا وراكبا فهؤلاء المستدلون على حقيقة توحيد الله يذكرون الله فى سائر هذه الأحوال.
وقد قال بعضهم: يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ (سورة آل عمران الآية 191). أى يصلون على جميع هذه الأحوال على قدر امكانهم فى صحتهم وسقمهم.
وحقيقته عندى- والله أعلم- انهم موحدون الله فى كل حال.