الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير الشيخ محمود شلتوت
كان الشيخ شلتوت رحمه الله من الشخصيات التى لا تهدأ: كان حركة وبحثا وانتاجا وجدلا هنا وهناك.
وكان لا يحب الروتين فى عمله، وكان يتسم دائما بسمة التجديد، والناس حينما يألفون شيئا يعتقدون أنه حقيقة ويستكينون إليه، ويرضون به، فاذا ما انسان خطأ بعض مفاهيمهم، وقلب بعض الأوضاع التى يسيرون عليها، فأنهم لا يسكتون عنه وإنما يشتبكون معه فى جدال ونقاش، قد يكون أحيانا حادا عنيفا، كذلك كان الامر مع الشيخ شلتوت وقد اشتبك فى معارك علمية كثيرة وهاجم ودافع وكان له أنصار وكان له خصوم.
ولم تكن حياته بسبب ذلك هادئة رخاء، فقد فصل فى يوم من الأيام من الأزهر لأنه مجدد ومخرج، وثائر على الأوضاع المعروفة، واستمر فصله مدة طويلة، ثم اعيد إلى الازهر من جديد فلم يترك منهجه فى السلوك.
وهو أول من اقترح على الاذاعة أحاديث الدين الصباحية، ورأى القائمون على الاذاعة وجاهة الاقتراح فعهدوا إليه بالامر فترة طويلة من الزمن، وكان صوته يجلجل كل صباح متسما بالحيوية القوية، والاسلوب الطيب، والفكرة الجديرة بأن تسمع.
واشترك مع غيره من علماء الدين النابهين فى التقديم للقرآن الكريم حينما يتلى فى الاذاعة وكان هذا تجديدا أيضا فى برامج الاذاعة وكان هذا التقديم متتابعا متتاليا يقدم الربع من القرآن الكريم، ثم يقرأ القارئ فيكون المستمع على علم بمضمون ما يسمع من التلاوة.
وكان مركز الشيخ شلتوت يقوى ويتركز يوما فيوما حتى وصل به الامر إلى مشيخة الأزهر.
وولد الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الازهر الاسبق فى قرية منية بنى منصور بمحافظة البحيرة سنة 1893 ودرس العلم بمعهد الاسكندرية الدينى .. واستمر فى طريق التعليم مرحلة بعد مرحلة حتى نال شهادة العالمية النظامية سنة 1918.
هذا عن تعليمه:
أما عن تدرجه فى الاعمال فقد عمل مدرسا بمعهد الاسكندرية، ثم انتقل إلى التدريس بالقسم العالى .. وعمل بعض الفترات بالمحاماة، ثم نال عضوية جماعة كبار العلماء سنة 1942 وتدرج فى مناصب الازهر حتى اختير شيخا للازهر سنة 1958.
وكان له نشاط بارز فى البحوث الدينية والمؤتمرات العلمية ومجال التأليف الذى كان أنضج ثمراته تفسير القرآن الكريم.
ويمثل تفسير الشيخ شلتوت الدراسة العلمية الموضوعية التى تجعل القرآن اصلا للبحث وأساسا للتشريع، فيجمع إلى الآية التى يقصد تفسيرها ما يناسبها من آيات وما يرتبط بها من موضوعات العلوم، ثم يعالج موضوع الآية معالجة عامة شاملة تبرز موقف القرآن بل الدين عامة من هذا الموضوع.
ويمتاز هذا التفسير بوضوح الفكرة وسهولة الاسلوب وجمال التنظيم.
وقد اعتبره مؤلفه مظهرا من مظاهر نشاط المسلمين فى خدمة القرآن الكريم وقد تحدث فى مقدمته عن جهود المسلمين فى خدمة القرآن فقال:
«لا نكاد نعرف علما من العلوم التى اشتغل بها المسلمون فى تاريخهم الطويل إلا كان الباعث عليه هو خدمة القرآن الكريم من ناحية ذلك العلم:
فالنحو الذى يقوم اللسان ويعصمه من الخطأ أريد به خدمة النطق الصحيح للقرآن وعلوم البلاغة التى تبرز خصائص اللغة العربية وجمالها أريد بها بيان نواحى الاعجاز فى القرآن والكشف عن اسراره الادبية وتتبع مفردات
اللغة والتماس شواردها وشواهدها وضبط الفاظها وتحديد معانيها، أريد بها صيانة الفاظ القرآن ومعانيه أن تعدوا عليها عوامل التحريف والغموض.
والتجويد، والقراءات لضبط اداء القرآن، وحفظ لهجاته.
والتفسير لبيان معانيه والكشف عن مراميه.
والفقه لاستنباط احكامه.
والأصول لبيان قواعد تشريعه العام وطريقة الاستنباط منه.
وعلم الكلام لبيان ما جاء به من العقائد واسلوبه فى الاستدلال عليها.
وقل مثل ذلك فى التاريخ الذى يستدل به المسلمون تحقيقا لما أوحى به الكتاب الكريم فى مثل قوله:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (يوسف: 3) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ (هود: 120) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (القمر: 4) وقل مثل هذا أيضا فى علوم تقويم البلدان وتخطيط الاقاليم الذى يوحى به مثل قوله تعالى:
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ (آل عمران: 137) فَامْشُوا فِي مَناكِبِها (الملك: 15) وفى علوم الكائنات التى يوحى بها مثل قوله:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الانبياء: 30)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (النور: 43) وهكذا علوم الفلك والنجوم والطب، وعلوم الحيوان والنبات وغير ذلك من علوم الانسان لا يخلو علم منها أن يكون الاشتغال به فى نظر من اشتغل به من المسلمين مقصودا به خدمة القرآن، أو تحقيق إيحاء أوحى به القرآن.
حتى الشعر انما اشتغلوا به ترقية لأذواقهم، وتربية لملكاتهم، واعدادا لها كى تفهم القرآن وتدرك جمال القرآن.
وحتى العروض من أسباب عنايتهم به أنه وسيلة لمعرفة بطلان قول المشركين أن محمدا شاعر وأن ما جاء به شعر.
وانتقل الشيخ شلتوت إلى بيان مناهج المفسرين والوان تفسيرهم ومنها ما يغلب عليه بيان نواحى البلاغة والاعجاز.
ومنها ما يهتم بالفقه والتشريع وبيان أصول الاحكام .. وهكذا.
ثم علق على ذلك بقوله:
لهذا كله اعتقد أنى لا أتجاوز حد القصد والاعتدال اذا قلت: أنه لم يظفر كتاب من الكتب سماويا كان أو أرضيا فى آية أمة من الأمم قديمها وحديثها بمثل ما ظفر به القرآن على أيدى المسلمين ومن شارك فى علوم المسلمين .. ولعل هذا يفسر لنا جانبا من الرعاية الالهية لهذا الكتاب الكريم الذى تكفل الله بحفظه وتخليده فى قوله:
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .
فما كان الحفظ والتخليد بمجرد بقاء الفاظه وكلماته مكتوبة فى المصاحف مقروءة بالألسنة متعبدا بها فى المساجد والمحاريب، وإنما الحفظ والخلود بهذه العظمة التى شغلت الناس وملأت الدنيا، وكانت مثارا لأكبر حركة فكرية اجتماعية عرفها البشر.
ولم يقتصر الشيخ شلتوت على عرض الجهود، وكشف مظاهر خدمة المسلمين للقرآن بل نبه إلى أشياء ينبغى تنزيه القرآن عنها، فقال:
وإذا كان المسلمون قد تلقوا كتاب الله بهذه العناية، واشتغلوا به على هذا النحو الذى افادت منه العلوم والفنون، فان هناك مع الأسف الشديد ناحيتين كان من الخير أن يظل القرآن بعيدا عنهما، احتفاظا بقدسيته وجلاله، هاتان الناحيتان هما:
ناحية استخدام آيات القرآن لتأييد الفرق والخلافات المذهبية.
وناحية استنباط العلوم الكونية والمعارف النظرية الحديثة منه.
ويهمنا هنا تفصيل الناحية الثانية وتتمثل فيما يرى الشيخ شلتوت فى طائفة المثقفين الذين أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة ويقيسون آيات القرآن على مقتضاها.
ومن الامثلة على ذلك أن يفسر بعض الناظرين فى القرآن الكريم قوله تعالى:- فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (الدخان: 10، 11) بما ظهر فى هذا العصر من الغازات السامة والغازات الخانقة التى انتجها العقل البشرى فيما أنتج من وسائل التخريب والتدمير، يفسرون الآية بهذا ويغفلون عن قوله تعالى:
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ، وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.
(الدخان: 12، 13، 14) ثم يقول: ولسنا نستبعد- اذا راجت عند الناس فى يوم ما نظرية داروين مثلا- أن يأتى إلينا مفسر من هؤلاء المفسرين الحديثين فيقول:
«ان نظرية داروين قد قال بها القرآن منذ مئات السنين» وهذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك، لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم، ودقائق الفنون، وأنواع المعارف.
وهى خاطئة من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلا متكلفا يتنافى مع الاعجاز ولا يسيغه الذوق السليم.
وهى خاطئة لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم فى كل زمان ومكان والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأى الاخير، فقد يصح اليوم فى نظر العلم ما
يصبح غدا من الخرافات.
فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها وتحمل تبعات الخطأ فيها ولا وقفنا انفسنا بذلك موقفا حرجا فى الدفاع عنه.
وحسبنا أن القرآن ولم يصادم- ولن يصادم- حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول ولا يتأتى أن ننقل نموذجا كاملا من هذا التفسير لاعتماده على الناحية الموضوعية واسهابه فى الكلام عما يتعرض له من آيات.
وعن قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (النساء: 114)
يشير إلى أن الاعمال وخاصة ما ذكر فى الآية يكون لصاحبها الاجر العظيم اذا فعلها خالصة بها نيته مبتغيا بها مرضاة ربه.
هذا هو الاساس فى فهم الفضيلة: ترسم أوامر الله وتنفيذها ابتغاء مرضاة الله ومن هنا جهد المؤمنون بالله فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وأهليهم وعشيرتهم، وكان ذلك فى نظرهم الحياة الخالدة، والغنى الدائم والسعادة الابدية.
وهناك فريق من الناس يرون أن اساس الفضيلة هو تلبية الضمير فيما يعتقدون خيّرا للمجتمع ويرون ان هذا كاف لسعادة الانسان ومد الضمير كفيل بتقدير الخير ومعرفته دون الرجوع إلى الله، وما يرسم لعباده من شرع وخلق، وأنهم بهذا ليسوا فى حاجة إلى الوحى وان الوحى إذا كان قائما يحتاج إليه لإرشاد من ليسوا أرباب الضمائر الحية المستيقظة.
وقد فات هؤلاء أن فهم ما ينفع الهيئة الاجتماعية وما لا ينفعها كثيرا ما تختلف فيه الانظار والآراء وقلما تجد فى تاريخ هذه النظرية قديمة وحديثة- اتفاقا على نفع جزئية معينة أو ضرر جزئية معينة وفاتهم أيضا أن النظر الواحد أو الضمير الواحد كما يعبرون كثيرا ما يتغير فى معرفة الخير والفضيلة.
وقد عدل كثير من الفلاسفة عن آرائهم الاولى واستحدثوا آراء أخرى جديدة .. ولهذا تعترك فى عصرنا الحاضر المذاهب الاجتماعية، من ديمقراطية وفاشية ونازية وشيوعية واشتراكية بل يتنازع أرباب المذهب الواحد، بل يتناقض الفرد الواحد مع نفسه ورأيه، فى وقتين مختلفين وكل هؤلاء يتحاكمون إلى الضمير أو يتحاكمون إلى الادراك البشرى وفى معرفة الفضيلة وهو تحاكم- كما نرى- إلى أساس غير ثابت ولا منضبط ولا مأمون العاقبة.
وهو فى الوقت ذاته سير بالنفس وبالعالم فى طريق محفوفة بالمخاطر تهدد العالم فى امنه واستقراره وتشعل فيما بين جوانبه نار الحروب والتدمير.
ولا سبيل إلى الاستقرار فى هذا العالم، وسلامته من أثر الآراء المشتجرة بالا بالرجوع إلى أساس ثابت منضبط، صادر عن عليم بطيات النفوس، ونزعات البشرية، يبصرهم ذلك الاساس بالخير والفضيلة التى ارتسمت فى لوح الوجود الحق الذى لا يكتبه إلا خالق الوجود ومدبر الكون على ما يعلم فيه من سنن وشئون، وليس ذلك المبصر إلا وحى العليم الحكيم:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً.
(الإسراء: 9)