الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير جزء تبارك للشيخ عبد القادر المغربى
من فضلاء العلماء فى هذا القرن: الشيخ عبد القادر المغربى الأديب العالم المتضلع من علوم اللغة ومعارف الدين.
كان له نشاط مشكور فى الحركة العلمية والادبية فى عصره، اذ ضم الى حسن المحاضرة- وفرة المعلومات، وغزارة الافكار، ودقة الفهم، وعمق التحرى فيما يتحدث عنه.
وقد تولى عضوية المجلس العلمى بدمشق، والمجمع اللغوى بمصر، وظل يتنقل بين القطرين مع امتداد رحلته الى غيرهما من الأقطار.
وكان له معرفة بفضلاء عصره، يسمعهم ويستفيد منهم، ويقدم لهم ما عنده من العلم ويفيدهم وهو فى كل ذلك لا يهدأ عن الحركة، ولا يتوقف عن العمل.
ومن روائع كتبه، فضلا عن هذا التفسير، كتابه عن جمال الدين الافغانى الذى اشتمل على ذكريات نادرة محببة، فيها كشف لجوانب طيبة ممتعه عن جمال الدين، كما كان له آراء جيدة،- ومواقف علمية سديدة فيما يتصل بمباحث اللغة ومشكلاتها.
أما عن تفسيره لجزء تبارك، فقد كان له أسباب بعثت عليه، وأمور وجهت نحوه، ويتحدث هو عن ذلك فى مقدمة تفسيره، فيقول:
أما بعد: فان جزءي «عم» و «تبارك» من أكثر الاجزاء شيوعا بين طلاب المدارس، وتداولا بين عامة المسلمين، وأيدى صغارهم، وآياتهما أشد علوقا بالنفس، وترديدا فى الافواه، من سائر آيات الكتاب، فمن ثم
كانا جديرين بأن يفسر كل منهما تفسيرا حسن الوضع، صحيح الاسلوب، يقرب من أذهان العامة ولا تتجافى عنه عقول الخاصة فيقتصر فيه من القول على ما يكشف الغموض عن الآيات من جهة اللغة والاعراب، ثم يشرح فيه المعنى المتبادر شرحا وسطا مجردا عن التنطع بالمشاغبات وايراد الخلافات والخرافات.
وقد وضع مولانا الاستاذ الشيخ محمد عبده رحمه الله تفسيرا لجزء «عم توخى فيه هذا النمط والاسلوب، فجاء من خير الكتب وفاء بالغرض، واصابة لمواضع الحاجة، فلا غرو اذا تناولته الالسنة بالثناء وتلقته القلوب بالقبول.
وقد رغب الى بعض الفضلاء فى أثناء اقامتى بمصر بين سنتى 1323، 1327 هـ (1905 - 1908 م) أن أضع تفسيرا الجزء «تبارك» أتوخى فيه طريقة استاذنا الجليل فيما علقه على جزء «عم» من جهتى الصحة فى التعبير، والاقتصار على المفيد من القول، فقلت له: بلغنى أن الاستاذ رحمه الله قد فسر جزء «تبارك» وهو ما زال فى تساويد مبعثرة محفوظة عند صديقة المرحوم «حسن باشا عاصم» .
وبعد البحث عن تلك التساويد، علمنا أن الاستاذ لم يشرع فى تفسير جزء «تبارك» بالفعل وإنما كان هيأ صحائف بيضاء رقم فى رءوسها آيات ذلك الجزء، وتركها غفلا من الكتابة على أمل أن- يصطحبها معه فى بعض اسفاره، ويملأها تفسيرا وتعليقا، كما كان من أمره فى تفسير وتعليقا، كما كان من أمره فى تفسير جزء «عم» الذى ألفه فى غضون سفره الى البلاد المغربية، لكنه اخترمته منيته قبل أن تتحقق أمنيته.
ثم كان ذلك الصديق الفاضل كلما زارنى أو صادفنى سألنى عن التفسير وألحّ على بالشروع فيه، فكنت أعتذر اليه بنقص الكفاية، وصعوبة الامر، وفقد الاداة اللازمة لسلوك هذا الطريق الوعر، ولا سيما أن تفسيرى لجزء «تبارك» لا ينظر اليه الناظرون لذاته، من حيث نسبته الى صاحبه، وانما تنعمد فيه
الموازنة بينه وبين ما كتبه الاستاذ على جزء «عم» فيحط قدره فى عيون القراء، وينسخ ظلامه بالضياء وبضدها تتميز الاشياء.
ثم ضرب الدهر ضربا، فكان من أمره أن نزلت دمشق أول سنى الحرب الاولى نزولا حسبته لما ما، فاذا هو قد استتلى شهورا وأعواما، فتجددت لى وأنا فيها دواع حفزتنى لتحقيق الامل. ومباشرة ما كلفت من العمل، فوضعت هذا التفسير مستعينا بحول الله وقوته، وأكملته على مثال تفسير شيخنا وطريقته.
بيد أنى رأيت أن أتوسع قليلا فى التعليق والتفسير والاستشهاد والتنظير- ولا سيما فى المباحث اللغوية- بأكثر مما فعله الاستاذ رحمه الله فى تفسير جزء «عم» مراعيا فى ذلك حال قراء جزء «تبارك» ومقدرا فى نفسى أنهم سيكونون أكبر سنا، وأتم استعدادا، وأشد اهتماما بالتحصيل من قراء جزء «عم» وقد قمت فى تفسيرى هذا بفعل ما أطيق وأملك: من تحرى الحق والصواب فيما أولت وفسرت، وبسط العبارة وتهديها فيما أنشأت وحررت وتصحيح النية وجعلها خالصة لوجهة الكريم فيما اخترت ورجحت.
وقد وفى الشيخ بما وعد به فى مقدمة تفسيره، ويتضح ذلك بذكر نموذج منه:
قال الله تعالى:
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» (سورة الحاقة: 48، 49، 50، 51، 52) جعل ختام السورة كنتيجة للكلام السابق، مرتبطة به أشد ارتباط، فهو يقول:
اذا ثبت أن القرآن وحى من الله، لم يتقوله محمد صلى الله عليه وسلم على ربه- كان هذا القرآن تذكرة وعظة ينتفع بها المتقون.
فضمير «وانه» يرجع الى القرآن الذى ان لم يتقدم له ذكر صريح، فقد تقدم ما يعينه ويومئ اليه، فان قوله تعالى:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لم يرد به الا القرآن الذى كان يزعم المشركون أنه أقاويل وأساطير، والله نفى ذلك واحتج على كذبهم وصدق القرآن.
وقوله «للمتقين» يريد بهم أولئك الذين صفت نفوسهم عن كدورات الاوهام، وخلصت من شوائب الجمود والتقليد، ومالت بفطرتها الى قبول الحق، والاذعان له تنفى
بذلك سخط خالقها، وتحذر عقابه، أمثال هؤلاء هم الذين استعدت نفوسهم لقبول القرآن والاستهداء به، أما أولئك المكذبون الجامدون على ما ورثوه من آبائهم، فان الله توعدهم بقوله:
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وليس المراد به افادة أنه تعالى يعلم بالمكذبين فقط، بل المراد أنه تعالى محيط بهم، راصد لهم، غير تارك عقابهم، فاستعمال العلم بهذا المعنى كاستعمال المعرفة، يقال: «أنا أعرف المحسن منكم والمسيء «أى لا يخفى على ذلك منكم ولا أغفل عن مقابلة كل بما يستحقه، ومنه قول ابن الفارض:
«روحى فداك عرفت أم لم تعرف» أى كافيتني بالحسنى أم لم تكافنى.
فهؤلاء المكذبون الذين يعلم الله، وهو من ورائهم، كيف يكون حالهم فى مستقبل الايام فى الدنيا، اذا أظهر الله نبيه، ونصر حزبه، وفى الآخرة اذا أزيح الستار وبطلت الاعذار؟ لا جرم أن تكذيبهم سيكون عليهم حسرة، وهذا معنى قوله تعالى:
«وانه لحسرة على الكافرين» فضمير «انه» يرجع الى التكذيب المفهوم
من قوله «المكذبين» ومراده «بالكافرين» نفس المكذبين المذكورين قبله، وكان الظاهر الاضمار، أى أن يقول «وانه لحسرة عليهم» لكنه أتى بالاسم الظاهر ليتناول به وصفا جديدا لهؤلاء المكذبين وهو كونهم كافرين ويحتمل أن يرجع ضمير «وانه» الى القرآن أى القرآن سيكون حسرة على المكذبين فى الدنيا اذا ظهرت تعاليمه وانتشر فى الخافقين نوره، أو فى الآخرة اذا رأوا نجاة المصدقين به، المتمسكين بحبله، وعود ضمير «وانه لحسرة» على القرآن أنسب، وبذلك ينتظم شمله مع ضمير «وانه لتذكره» الذى قبله وضمير، «وانه لحق اليقين» الذى بعده فانهما للقرآن.
ومعنى «وانه لحق اليقين» ان القرآن هو اليقين، أى الحق الثابت الذى لا شبهه فيه ولا ريب، والجملة من مقوله تعالى، يثبت بمضمونها قلب نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا يلين فى الدعوة ولا يضعف عزمه لتكذيب أولئك المكذبين ورميهم له بمختلف التهم وملفق الدعاوى.
ومعنى «فسبح باسم ربك العظيم» اذا كان من عاقبة المكذبين ما ستعلمه يا محمد وسيعلمونه هم، وكان القرآن وحيا من الله يقينا لم يبق الا ثباتك فى أمرك ومضيك فى ما ندبت له من تبليغ رسالتك، واستعن على مهمتك هذه بتسبيح ربك، والشكر له، على أن اختصك بكرامة النبوة، وعلو المرتبة، فهو ربك الذى أحاطك بعنايته، والعظيم الذى يصغر كل شىء اذا قيس بعظمته، وهو تعالى وحده الذى يجب أن تسبحه وتشكر له، وترجوه وتخافه، ودع عنك أولئك المكذبين جانبا».