الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحصيل نظائر القرآن للحكيم الترمذى
إننا نعجل فنورد فى مطلع الحديث عن الحكيم الترمذى قوله:
(ما صنفت حرفا عن تدبير، ولا لينسب إلى شىء من المؤلفات، ولكن كان إذا اشتد على وقتى اتسلى به .. ).
لقد تثقف فى اللغة والدين والحكمة كأحسن ما يكون التثقيف، والتزم العبودية لله سبحانه وتعالى أخلص ما تكون العبودية، لما توفر له العاملان الأساسيان لكل مرب ومصلح: الثقافة وتزكية النفس، وأخذ يجاهد فى سبيل الله، داعيا العبيد الآبقين إلى الدخول من جديد فى ساحة الرضوان، ليتكفل الله بهم، وليرعاهم، وليسعدوا فى دنياهم وفى آخرتهم:
وفاضت عنه الحكمة جذابة وضاءة زكية، فاضت عنه حديثا، وفاضت عنه سلوكا وفاضت عنه كتابة وبحثا وتأليفا فى مختلف الميادين الدينية، يقول عنه الإمام الشعرانى: وهو من كبار مشايخ خراسان، وله التصانيف المشهورة وكتب الحديث ..
ثم يروى الإمام الشعرانى بعض أقواله: نذكر منها قوله: دعا الله الموحدين للصلوات الخمس رحمة منه عليهم، وهيأ لهم فيها ألوان الضيافات لينال العبد من كل قول وفعل شيئا من عطاياه سبحانه وتعالى، فالأفعال كالأطعمة والأقوال كالأشربة، وهم عرش الوحدانية.
وكان رضى الله عنه يقول:
(صلاح الصبيان فى المكتب، وصلاح قطاع الطريق فى السجن، وصلاح النساء فى البيوت).
أما الإمام القشيرى فإنه يقول عنه:
(من كبار الشيوخ، وله تصانيف فى علوم القوم).
الواقع أنه لم يكن له التصانيف فى علوم القوم (والقوم هنا هم الصوفية) فحسب، وإنما كانت له كتب كثيرة فى كثير من الفنون المختلفة.
ومنذ زمن بعيد والناس- كبارا وصغارا- متأثرون به نقدا أو إعجابا.
ومن الكتب التى كان يدرسها الإمام ابو الحسن الشاذلى والإمام أبو العباس المرسى كتاب: «ختم الأولياء» .
وكتاب ختم الأولياء للحكيم الترمذى، كتاب أقام الجو الثقافى وأقعده حين صدوره وكان سببا فى صعوبات كثيرة اعترضت المؤلف بسبب الآراء التى احتوى عليها.
وهو كتاب أثار اهتمام الإمام الأكبر محيى الدين بن عربى اثارة كبرى.
فافرد له كتابا خاصا ثم افرد له صفحات من كتاب الفتوحات وحاول ان يجيب على ما ورد فيه من اسئلة ووضع نفسه بهذا موضع، الاختبار وهو من هو فلسفة وحكمة وعلما وتصوفا، ووضع نفسه بهذا موضع التحدى وكانه يقول:
ها أنا ذا أجيب على الاسئلة متحديا فيما يتعلق بصحة الإجابة.
لقد كان الشاذلى يلقى دروسا فى شرح هذا الكتاب ولقد بلغ من روعة هذه الدروس ان كان ابو العباس المرسى يحرص كل الحرص على حضورها لما كان لها فى نظره من الأهمية وحينما يكون على سفر فى شأن من شئون الدعوة، فإنه يلتمس كل وسيلة تمكنه من حضورها.
ولقد كان كتاب ختم الأولياء مفقودا إلى عهد قريب، ثم عثر الأستاذ عثمان يحيى عليه فطبعه فى بيروت طبعة محققة مع دراسة عن الترمذى.
ويقول ابن عطاء الله السكندرى- رضى الله عنه- عن أبى العباس المرسى:
(وكان هو والشيخ أبو الحسن كل مهما يعظم الإمام الربانى محمد ابن على الترمذى، وكان لكلامه عندهما الخطوة التامة .. وكانا يقولان أنه أحد الأوتاد الأربعة).
ومن كتبه التى أثارت ضجة كبرى أيضا كتاب: (علل العبودية .. أو علل الشريعة).
ومن الناس من يقول: ان الأحكام لا تعلل، وإن الله سبحانه يذكر الأحكام معللا لها أحيانا، فنعرف علتها نصا، ويترك سبحانه فى الأغلب الأعم التعليل، فنأخذ بالأحكام ولا نتساءل عن التعليل، والعبودية التزام ما أتى به الوحى: التزامه دون فتور أو تباطؤ، أو تردد ودون محاولات للتعليل.
فلما أخرج الإمام الحكيم هذا الكتاب ثار عليه هؤلاء ورموه بالانحراف.
وألقى الحكيم بنفسه فى معركة الفكر السائدة فكتب من الكتب فى ذلك:
1 -
الرد على الرافضة، فأثار الرافضة ضده- (الرافضة هم الشيعة) 2 - الرد على المعطلة، والمعطلة هم المعتزلة، فأثار المعتزلة ضده.
وكتب كتبا كثيرة متعددة، أثارت جدلا ونقاشا، وثورة فكرية فى المجتمع الإسلامي، ومن الكتب التي لها صلة بكتابنا الذي نقدمه الآن كتاب:(الفروق ومنع الترادف).
وفكرة الكتاب تقوم على أن الترادف غير موجود فى اللغة العربية، فليس هناك لفظتان بمعنى واحد، وهذا رأى يخالفه فيه كثيرون، وليس هو الرأى العادى، ولم يبال الترمذى بما يشيع عنه الناس، وإنما كتب فى ذلك مبرهنا، ممثلا، فاثار بذلك أيضا جدلا فى الأوساط اللغوية.
والكتاب الذى نقدمه هو تفسير للقرآن فى زاوية خاصة جدا هى زاوية بيان أن القرآن خال من المترادفات، وان كل كلمة فيه لها أصلها اللغوى الذى يختلف عن الأصل اللغوى للكلمات التى تشابهها.
وطريقته: إن يأتى بالأصل اللغوى للكلمة ثم يورد ما يمكن أن يكون فى تيارها من كلمات قريبة المعنى منها، مبينا الفرق ولو كان يسيرا.
ولقد أتى من أجل ذلك بمجموعة من المصطلحات القرآنية، وأخذ فى تفسيرها وبيان أصلها وما تختلف به عما يشابهها من الكلمات وحديثنا النظرى
هذا عن الكتاب يوضحه الأمثلة التى نوردها وهاك نموذجا من تفسيره يقول:
1 -
المال: وإنما صار الخير فى هذا المكان «المال» لأنه خير الدنيا ونعيمها، فالاختيار واقع عليه ولذلك سمى (خيرا).
2 -
الايمان والإسلام: وانما سمى الخير «الإسلام والايمان» فى مكان آخر: لأنه مختاره للآخرة.
3 -
الوفاء والإمامة: إنما صار الخير: الوفاء والإمامة فى مكان آخر.
فذاك لاختيار الله اياه.
4 -
السعة والغنى: وإنما صار الخير «السعة والغنى» فى مكان آخر فذاك مختاره للدنيا.
5 -
السرور: وإنما صار الخير «السرور» فى مكان آخر: لأنه مختاره على الأشياء. أ. هـ. ونموذج آخر من تفسيره: يقول:
«الهدى» فقد جاءت على ثمانية عشر وجها. فالحاصل من هذه الكلمة: كلمة واحدة فقط، وذلك ان الهدى: هو الميل، ويقال فى اللغة:
رأيت فلانا يتهادى فى مشيته، أى يتمايل. ومنه قوله تعالى:
إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ (سورة الاعراف الآية رقم 156) أى ملنا اليك، ومنه سميت الهدية: هدية: لأنها تميل بالقلب الى مهديها. وأن القلب امير على الجوارح، فاذا هداه الله لنوره، أى اماله إليه لنوره: اهتدى، أى: استمال، وقد قال فى تنزيله.
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ (سورة النور الآية 35) فهذا أصل الكلمة، ثم وجدنا تفسير الهدى:
1 -
البيان: فانما صار الهدى بيانا فى ذلك المكان، لأن البيان اذا أوضح على القلب بنور العلم: مد ذلك النور القلب إلى ذلك الشيء وأماله إليه.
2 -
الاسلام: وانما صار الهدى فى المكان الآخر (الإسلام) لأنه اذا
مال القلب بذلك النور الى ذلك الشيء الذى تبين له: انقاد العبد وأسلم ومد عنفا إلى قبوله.
3 -
التوحيد: وانما صار الهدى التوحيد فى المكان الآخر، لأنه إذا مال القلب إلى ذلك النور سكن عن التردد، واطمأن إلى ربه فوحد.
4 -
الدين: وانما صار الهدى «الدين» فى مكان آخر، لأنه إذا مال القلب إلى ذلك النور: دان الله، أى: خضع، والدين: هو الخضوع، ومنه قيل للشيء المتضع:«دون» .
5 -
الدعاء: وإنما صار الهدى فى مكان آخر «الدعاء» لأنه إذا دعا إلى الله بقلب مستنير: مالت القلوب إلى ذلك النور، لأن على ذلك الكلام نورا، لأنه خرج من قلب مستنير.
6 -
بصيرة: وإنما صار الهدى «بصيرة» فى مكان آخر، لأنه إذا دعا الداعى بقلب ذى نور: ولج الكلام مع النور فى الاسماع فاستنارت الصدور من المستمعين، فابصرت عيون نفوسهم، وهى بصائرها، فتلك بصيرة النفس، فان للفؤاد بصرا، وللنفس بصيرة كلاهما بصيران فى الصدر، لأن الصدر: ساحة القلب، وساحة النفس، وقد اشتركا فى هذه الساحة، ومنه تصدر الأمور، ولذلك سمى صدرا لأنه مصدر الأمور، والأعمال منه تصعد إلى الاركان: ما دبر القلب، وما دبرت النفس، اتفقا، أو اختلفا فتنازعا.
فالاركان لأيهما غلب بجنوده، فإذا كانت النفس ذات بصيرة: بايعت القلب فى الحق والصواب الذى هو كائن من القلب، لأن فى القلب المعرفة:
والعقل معها، والحفظ معها، والفهم معها، والعلم معها، فهؤلاء كلهم حزب واحد، فاذا كانت النفس ذات بصيرة: تابعت القلب وجنوده، واذا عميت: فانما تعمى لغلبة الشهوات
…
ودخان الهدى، نازعت القلب بجنودها، فغالب ومغلوب، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا بذلك عمر بن أبى عمر العبدى، قال حدثنا محمد بن الوعيى، قال حدثنى يعلى بن الاشدق الطائفي، قال سمعت عمى عبد الله بن جراد
يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الأعمى من يعمى بصره، انما الأعمى من تعمى بصيرته).
ومن قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (سورة القيامة الآية 14) فكل آدمى على بصيرة، فما دام لا تغلب على بصيرته الشهوات فهو مستقيم، فاذا غلبت الشهوات عليها عميت، فاذا عميت استمرت لشدتها وتجلب على القلب شدتها حتى يتابعها القلب، فاذا تابعها عمى القلب، قال الله تبارك اسمه:
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ (سورة الحج الآية 46).
7 -
المعرفة: وانما صار الهدى المعرفة فى مكان آخر، لأنه إذا استنار الصدر: انشرح وانفسح، فعرف القلب ما يأتى وما يذر، فى ذلك الضوء.
8 -
القرآن: وانما صار الهدى «القرآن» .
9 -
والرسول: فى مكان آخر، لأن القلب اذا عقل ما فى القرآن مال إلى ما فيه من الأمر والنهى والوعظ.
10 -
الرشد: وانما صار الهدى «الرشد» .
11 -
والصواب: فى مكان آخر، لأنه إذا مال القلب إلى ذلك النور فقد رشد.
12 -
التقوى: وانما صار الهدى «التقوى» لأنه اذا مال القلب إلى ذلك النور فقلبه صار فى الوقاية، والتقوى هى الوقاية من النار.
13 -
التوفيق: وانما الهدى «التوفيق» لأنه اذا مال القلب إلى ذلك النور وفقه الله للصواب.
14 -
التوبة: وانما صار الهدى «التوبة» لأنه اذا مال القلب إلى ذلك النور. تاب، والتوبة هى الرجوع إلى الله.
15 -
الممر: وانما صار الهدى «الممر» لأنه الممر طريق العباد إلى الله، فاذا مال القلب إلى ذلك النور، فقد أصاب الممر.
فمرجع هذه الأشياء التى حيرت وجوها ذات شعب: الى كلمة واحدة ..
لأن الهدى: هو ميل القلب إلى الله بذلك النور الذى أشرق به الصدر فانشرح وانفسح وهو قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه).
هذه الأصالة الفكرية وهذه السعة فى المعارف، وهذه الجرأة فى اعلان ما يرى أنه الحق هى التى اطلقت على أبى عبد الله الترمذى: الحكيم، وهذا الوصف يميزه عن الامام الترمذى المحدث الكبير، ولكنها هى نفسها التى عرضته لفتنة أثارها اعداؤه وحاسدوه.
ان الله سبحانه وتعالى يقول: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا (سورة الأنعام الآية 112).
ولم يكن للترمذى عدو واحد، وانما كان له أعداء من الرافضة ومن المعطلة ومن المحدثين ومن الفقهاء وقد اثر هؤلاء على العامة، فكان له أعداء من العامة أيضا والناس على دين ملوكهم، أما الناس هنا فهم العامة، وأما ملوكهم فهم أصحاب الأقلام والألسنة.
ولكن العجب العجاب أنه أيضا تعرض للاضطهاد من الصوفية أنفسهم.
ولكن الحق الذي تقوله: أنه لم يخل من المسئولية فى ذلك فإنه هاجم دون رفق أو هوادة أو مجاملة كل انحراف:
انظر إليه يقول عن الصوفية:
تمل للمفتونين (بعض الصوفية) يقول لكم محمد بن على (هو الحكيم نفسه) حرام على قلوبكم الوصول إلى منار القرية حتى تؤدوا الفرائض على
ما وصفت، ثم حرام على قلوبكم بعد ذلك درجات الوسائل، حتى تميتوا مشيئاتكم، ثم حرام على قلوبكم بعد ذلك الدرجة العظمى فى ملك الملوك بين يديه حتى تنقطع عن قلوبكم مشيئة الوصول إليه.
وتالب عليه جميع اعدائه فاخذوا يتهمونه (وهو الصوفى العالم الحكيم) بهم لا تخطر له على بال، حتى رموه فى النهاية بالزندقة.
وأخذ الحكيم الترمذى الى الوالى وتحدث اليه الوالى فوجد عقلا وحكمة.
ولكنه من جانب آخر وجد هياجا شديدا ضد الحكيم، ماذا يصنع؟
انه أخذ على الحكيم تعهدا أن لا يتحدث فى الحب وكان الحديث فى الحب من التهم التى اتهموه بها، ولم تسكن الفتنة، فاخرج الحكيم من ترمذ فسافر الى بلخ فكرمه أهلها وقدروه واعتزوا به.
وهدأت الفتنة فى ترمذ وعاقب الله تعالى كل من أساء اليه فعاد الى ترمذ معززا مكرما ومات بها سنة 320 هـ- على ارجح الاقوال.