الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمام ابن كثير وتفسيره
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين ..
نبدأ مع الإمام ابن كثير بالحديث عن منهجه فى تفسير القرآن الكريم لأنه منهج من المناهج المثالية التى تتبع فى التفسير.
إن أصح الطرق فى تفسير القرآن الكريم- حسبما يرى ابن كثير- هى:-
1 -
أن يفسر القرآن بالقرآن، وذلك أنه كثيرا ما يكون المجمل فى مكان قد بسط فى موضع آخر.
2 -
فإذا تعذر ذلك فعلى المفسر بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل لقد قال الإمام الشافعى رحمه الله تعالى ورضى عنه حسبما يذكر ابن كثير:
«وكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ما فهمه من القرآن، قال الله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (سورة النساء الآية 105) وقال تعالى:
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (سورة النحل الآية 64)
وقال تعالى:
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (سورة النحل الآية 44) ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الا أنى أوتيت القرآن ومثله معه» يعنى السنة.
والسنة أيضا تنزل عليه بالوحى كما ينزل القرآن، الا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن.
3 -
فإذا لم نجد التفسير فى القرآن ولا فى السنة رجعنا فى ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم ادرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التى اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المبتدين المبدين، وعبد الله بن مسعود- رضى الله عنهم- والحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن.
4 -
وإذا لم تجد التفسير فى القرآن ولا فى السنة ولا وجدته عند الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة فى ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية فى التفسير، وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء ابن ابى رباح والحسن البصرى ومسروق بن الاجدع، وسعيد بن المسيب وابى العالية والربيع بن انس والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم فتذكر أقوالهم فى الآية.
وهؤلاء فيما يرى ابن كثير يقع فى آرائهم اختلاف، ولكن ابن كثير ينظر إلى آرائهم نظرة تشبه القداسة ويقول فى ذلك حرفيا: فيقع فى عبارتهم تباين فى الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافا فيحكيها أقوالا- أى يحكيها آراء متباينة مختلفة .. والكل بمعنى واحد فى أكثر الأماكن فيتفطن اللبيب لذلك.
ونحن وان كنا نشكر ابن كثير على موقفه هذا من آراء التابعين الذى يدل على نزعة طيبة نحو التقريب وتقليل شقة الخلاف فإننا نرى أن التابعين بحكم اصالتهم كانت لهم آراؤهم المتباينة.
وإذا سألت الآن عن موقف ابن كثير من التفسير بالرأى فإنه يقول: «أما التفسير بالرأى فقد ورد عن السلف ما يدل على تحرجهم عن الكلام فى التفسير بما لا علم لهم فيه
فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه».
وهذا الرأى لا بن كثير رأى موفق، أنه لا حرج على من تكلم فى التفسير بالرأى ما دام قد استكمل عدة ذلك من اللغة ومن الشرع.
وقد طبق ابن كثير منهجه هذا النفيس فى كتابه ومن أجل ذلك كان تفسيره من انفس التفاسير، يرجع إليه المحققون وقد استفاد منه الكثيرون فيما بعد فاغترف منه اغترافا صاحب محاسن التأويل وصاحب تفسير المنار وغيرهم كثير ..
ومن أمثلة هذا التفسير ما يلى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (سورة البقرة الآية 254) يأمر الله تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم فى سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم وليبادروا إلى ذلك فى هذه الحياة الدنيا.
(من قبل أن يأتى يوم) يعنى يوم القيامة.
(لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) أى لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال لو بذله ولو جاء بملء الأرض ذهبا لا تنفعه خلة أحد يعنى صداقته بل ولا نسابته كما قال: (فإذا نفخ فى الصور فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون).
(ولا شفاعة) أى لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وقوله (والكافرون هم الظالمون) مبتدأ محصور فى خبره، أى ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا، وقد روى ابن أبى حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال:«الحمد الله الذى قال (والكافرون هم الظالمون) ولم يقل: «والظالمون هم الكافرون» .
وقال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى يعنى أهل مكة وقد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام وكذلك سبأ وهم أهل اليمن ومدين وكانت فى طريقهم وممرهم إلى غزة، وكذلك بحيرة قوم لوط كانوا يمرون بها أيضا:
وقوله عز وجل: وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أى بيناها وأوضحناها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. (سورة الأحقاف الآية 27) وإذا كنا قد قدمنا الحديث عن المنهج لأهميته، فإننا نتحدث الآن عن الشخص وعن تقدير العلماء له.
انه الحافظ الكبير، المدقق المحقق، عماد الدين اسماعيل بن عمر بن كثير البصرى ثم الدمشقى الفقيه الشافعى:
ولد سنة إحدى وسبعمائة بقرية شرقى بصرى من أعمال دمشق وابتدأ فى طلب العلم من صغره ورحل فى طلبه، وقدم دمشق وله سبع سنين سنة ست وسبعمائة مع أخيه وقد مات أبوه وهو طفل لم يشب عن الطوق فى سنة 703 وساعده أخوه فى شئون حياته واتجه بكليته إلى العلم: دارسا ومتفقها، ومتعرفا على ألوان العلوم فحفظ والف وكان- فى كل ذلك- كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيد الفهم، يشارك فى العربية وينظم نظما وسطا.
ولم يتحصل له العلم إلا بعد أن سمع من كثير من العلماء وتفقه على العديد من الشيوخ كالشيخ برهان الدين الفزارى وكمال الدين بن قاضى شهبة، ثم صاهر الحافظ أبا الحجاج المزى ولازمه وأخذ عنه، وأقبل على علم الحديث وأخذ الكثير عن ابن تيمية وقرأ الأصول على الأصبهانى، وسمع الكثير، وبرع فى حفظ المتون ومعرفة الأسانيد والعلل والرجال والتاريخ حتى برع فى ذلك وهو شاب.
قال عنه الإمام الذهبى فى معجمه:
«الإمام المفتى المحدث البارع: فقيه متفنن ومحدث متقن، ومفسر نقاد.
وقال ابن حجر فى الدرر:
سمع من ابن الشحنة وابن الزرّاد وإسحاق الآمدى وابن عساكر والمزى وابن الرضى وأجاز له من مصر: الدبوسى والوانى والختنى وغيرهم .. واشتغل بالحديث مطالعة فى متونه ورجاله، فجمع التفسير، وشرع فى كتاب كبير فى الأحكام لم يكمل، وجمع التاريخ الذى سماه البداية والنهاية وعمل طبقات الشافعية وخرج أحاديث مختصر ابن الحاجب وشرع فى شرح البخارى، ولازم المزى وقرأ عليه تهذيب الكمال وصاهره على ابنته وأخذ عن ابن تيمية، ففتن بحبه وامتحن بسببه.
وقال عنه ابن حبيب: زعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف وأطرب الأسماع بالفتوى وشنف، وحدث وأفاد وطارت أوراق فتاويه فى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير وانتهت إليه رئاسة العلم فى التاريخ والحديث والتفسير.
وقال تلميذه الحافظ شهاب الدين بن حجى:
«كان احفظ من ادركناه لمتون الأحاديث، واعرفهم بتخريجها ورجالها وصحيحها وسقيمها وكان اقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وكان يستحضر شيئا كثيرا من الفقه والتاريخ قليل النسيان وكان فقيها جيد الفهم صحيح
الذهن، يشارك فى العربية مشاركة جيدة وينظم الشعر، وما اعرف أنى اجتمعت به على كثرة ترددى إليه إلا واستفدت منه».
وقال ابن حجر:
كان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، سارت تصانيفه فى البلاد فى حياته وانتفع بها الناس بعد وفاته.
وقد انتهت إليه رئاسة العلم فى التاريخ والتفسير والحديث فولى مشيخة أم الصالح بعد موت الذهبى، ومشيخة دار الحديث الاشرفية بعد موت السبكى مدة يسيرة، ثم أخذت منه.
وهو القائل:
تمر بنا الأيام تترى وانما
…
نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائد هذا الشباب الذى مضى
…
ولا زائل هذا المشيب المكدر