المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير الإمام أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه - مناهج المفسرين

[منيع عبد الحليم محمود]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة فى تعريف التفسير وانواعه

- ‌الإمام سفيان الثورى وتفسيره

- ‌الإمام ابن قتيبة وتفسيره

- ‌معانى القرآن لأبى زكريا الفراء

- ‌الإمام سهل بن عبد الله التسترى وتفسيره

- ‌تفسير سهل بن عبد الله التسترى

- ‌الإمام الطبرى وتفسيره

- ‌معانى القرآن للزجّاج

- ‌تحصيل نظائر القرآن للحكيم الترمذى

- ‌شيخ الحنفية ببغداد الجصاص وتفسيره

- ‌مؤلفاته

- ‌أحكام القرآن

- ‌منصب قضاء القضاة

- ‌تلاميذ الجصاص

- ‌تفسير الجصاص «أحكام القرآن»

- ‌نموذج من أحكام القرآن

- ‌الحاكم النيسابورى وتفسيره

- ‌الامام السلمى وتفسيره

- ‌متشابه القرآن للقاضى عبد الجبار بن أحمد الهمدانى

- ‌الإمام القشيرى وتفسيره لطائف الإشارات

- ‌شيخ الشافعية ببغداد الكيا الهراس وتفسيره

- ‌وأنشد الشريف

- ‌فتاويه

- ‌مؤلفاته

- ‌أحكام القرآن

- ‌نموذج من «أحكام القرآن»

- ‌الواحدى النيسابورى وأسباب النزول

- ‌الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل

- ‌رحلته

- ‌ابن العربى وتفسيره (أحكام القرآن)

- ‌مؤلف هذا التفسير هو

- ‌تفسير ابن العربى: أحكام القرآن

- ‌تفسير الإمام ابن الجوزى «زاد المسير»

- ‌تقديره

- ‌حياته

- ‌شيوخه

- ‌الواعظ

- ‌مؤلفاته

- ‌ومن تفسيره

- ‌تفسير ابن عطية

- ‌واليك نماذج من تفسير ابن عطية

- ‌تفسير الإمام البغوى

- ‌المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى

- ‌الفخر الرازى وتفسيره

- ‌مؤلفاته

- ‌تلامذة الرازى

- ‌نموذج من تفسيره

- ‌الإمام الطبرسى وتفسيره مجمع البيان لعلوم القرآن

- ‌تفسير الإمام أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه

- ‌الإمام أبو العباس المرسى وتفسيره

- ‌تفسير أبى العباس المرسى

- ‌أبو حيان الأندلسى وتفسيريه (البحر المحيط) و (النهر الماد)

- ‌مؤلفاته

- ‌شعره

- ‌تفسير أبى حيان البحر المحيط، والنهر الماد- ومنهجه فيهما

- ‌نموذج من تفسيريه البحر المحيط، والنهر الماد (أولا: من البحر المحيط):

- ‌البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن لابن الزملكانى

- ‌الإمام ابن تيمية ومنهجه فى التفسير

- ‌جهاده السياسى

- ‌نقد ابن تيمية

- ‌(تفسير ابن تيمية)

- ‌ منهجه فى التفسير

- ‌ابن جزى وكتابه التسهيل

- ‌تفسيره

- ‌الإمام النسفى وتفسيره

- ‌ مؤلفاته

- ‌صفاته

- ‌وفاته

- ‌تفسير النسفى

- ‌ما يؤخذ على تفسيره

- ‌نماذج من تفسير النسفى

- ‌الإمام ابن كثير وتفسيره

- ‌بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز للفيروز بادى

- ‌المقصد الأول:

- ‌«بصيرة» - أنا انزلناه

- ‌المتشابهات

- ‌فضل السورة

- ‌بصيرة فى الرزق

- ‌النيسابورى المتوفى سنة 728 ه

- ‌تفسير النيسابورى

- ‌الإمام البيضاوى ومنهجه فى التفسير

- ‌الدر المنثور فى التفسير بالمأثور

- ‌الإمام أبو السعود وتفسيره

- ‌السراج المنير للخطيب الشربينى

- ‌روح البيان فى تفسير القرآن لاسماعيل حقى

- ‌فتح القدير للإمام الشوكانى

- ‌الإمام الألوسي وتفسيره روح المعانى

- ‌التفسير

- ‌حاشية الإمام الصاوى على الجلالين

- ‌الإمام جمال الدين القاسمى وتفسيره محاسن التأويل

- ‌طريقته فى التأليف

- ‌تفسير القاسمى

- ‌نموذج من تفسير القاسمى

- ‌الإمام محمد عبده وتفسيره

- ‌تفسيره

- ‌الأستاذ رشيد رضا وتفسيره

- ‌مؤلفاته وآثاره

- ‌الخلافة

- ‌منهجه فى تفسيره

- ‌نموذج من تفسيره

- ‌تفسير ابن باديس

- ‌تفسير جزء تبارك للشيخ عبد القادر المغربى

- ‌التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور

- ‌الشيخ المراغى وتفسيره

- ‌تفسير الشيخ محمود شلتوت

- ‌تاج التفاسير لكلام الملك الكبير للامام محمد عثمان الميرغنى

- ‌ضياء الاكوان للشيخ أحمد سعد العقاد

- ‌تفسير محمد فريد وجدى

- ‌ملامح من حياته

- ‌ومن نماذجه

- ‌تفسير الألفاظ

- ‌تفسير المعاني

- ‌التفسير الواضح للشيخ محمد محمود حجازى

- ‌المفردات

- ‌المعنى

- ‌ونموذج آخر

- ‌المفردات

- ‌المعنى

- ‌المنتخب في تفسير القرآن

- ‌مميزات هذا التفسير

الفصل: ‌تفسير الإمام أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه

‌تفسير الإمام أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه

هو أبو الحسن على الشاذلى الحسنى يصل نسبه إلى ابن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هريرة بن حاتم، بن قصى، بن يوسف، بن يوشع، بن ورد، بن بطال على بن أحمد، أبى محمد بن عيسى بن محمد الحسن بن سيد شباب أهل الجنة وسبط خير البرية، ابن أمير المؤمنين على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، وابن فاطمة الزهراء، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو العزائم ماضى يصف الشيخ رضى الله عنه:

«كانت صفته رضى الله عنه، آدم اللون، نحيف الجسم، طويل القامة، خفيف العارضين، طويل أصابع اليدين، كأنه حجازى.

وكان فصيح اللسان، عذب الكلام.

ولد ببلاد المغرب سنة 593 هـ بقرية تسمى «غمارة» - بلدة مغربية:

قريبة من مدينة سبتة.

وأخذ يدرس بها العلوم الدينية: وسائل وغايات، وبرع فيها براعة كبيرة.

يقول ابن عطاء الله السكندرى عنه:

انه لم يدخل طريق القوم حتى كان يعد للمناظرة فى العلوم الظاهرة.

بيد أن هذه العلوم الظاهرة مهما بلغت بها الدقة، ومهما بلغ بها العمل، لا تفضى بالنفوس الطموحة إلى الكف عن التطلع نحو عالم الغيب، واشراق الله وأنواره.

كيف يصل الانسان الى عالم الغيب؟

كيف ينغمس الانسان فى أضوائه؟

ص: 161

كيف ينعم بجماله، ويشعر بالروعة فى محيط جلاله؟

ان النفوس الطموحة كلما ازدادت علما، ازدادت شعورا بالنقص، والكمال لله وحده، ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقول:

رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (سورة طه الآية 114) وشعر أبو الحسن بالرغبة الملحة فى القرب من الله، وفى أن يستضيء قلبه بنور المعرفة، وفى أن يكشف الله له الحجب.

كيف يروى هذه الرغبة، كيف يسير فى الطريق، من أين يبدأ؟

لقد رسم الأول الطريق: ان البدء، البدء الميسر السهل، البدء الذى يأمن الانسان عواقبه انما يكون طريقه خبير سير الطريق، ومحص السبل، وكشف عن المزالق والاخطار، واستنار قلبه بالطريق القاصد إلى الله.

أين يجد هذا الشيخ ما السبيل إليه؟

ان بغداد منذ عهد العباسيين، كانت دائما محط أنظار طلاب الدنيا، وطلاب الدين.

ولقد كانت تضم كبار الفقهاء، وأعلام المحدثين، والقمم العوالى من الصوفية، كما تضم كبار الساسة والقادة، كان ذلك فى عهدها الزاهر فهل يا ترى هى كذلك فى القرن السابع الهجرى؟

واذا لم يكن لها كل البريق المادى الاول فهل بها على الاقل من الصوفية من يرسم الطريق عن خبرة، ومن يسلك بالمريد السبل دون أخطاء؟

وتحمل الرغبة الملحة أبا الحسن على السفر، انها هجرة إلى الله، انها هجرة النفس الطلقة الشفافة.

وهى هجرة يسير بها الامل، ويتخللها الاشفاق، وتصاحبها فى كل الاوقات اسئلة لا جواب لها:

ص: 162

هل سيجد الشيخ؟

وكيف يكون؟

وهل يستقبله الشيخ بقبول حسن؟

وبم سينصحه؟

واذا لم يجده فى بغداد فأين يجده؟

انتهى به المطاف إلى بغداد، والتقى بالاولياء، وكان قمتهم فى نظره هو أبو الفتح الواسطى يقول أبو الحسن:

لما دخلت العراق اجتمعت بالشيخ الصالح أبى الفتح الواسطى، فما رأيت بالطريق مثله.

ولكن همة أبى الحسن كانت تسموا إلى البحث عن القطب ذاته، انه كان يريد أن يكون قائده هو القطب نفسه، أين يجد القطب؟.

ها هو ذا بالعراق، وها هم أولاء الصالحون، وأولياء الله يتردد عليهم كل يوم وها هو ذا يرى النور على وجوههم، والصلاح يرتسم على سيماهم، ولكنه لم يجد القطب

وهو مطلبه.

وذات يوم قال له أحد الأولياء:

انك تبحث عن القطب بالعراق، مع أن القطب ببلادك، ارجع إلى بلادك تجده.

وعاد أبو الحسن من حيث أتى، عاد يحدوه الأمل، ويغمره الرجاء، لقد صدق الولى الذى أنبأه بأن القطب فى بلاده، وبأنه سيجده عند عودته.

وعاد يسرع الخطا ويستحث الوصول.

ها هو ذا بغمارة من جديد يسأل عن القطب المقبل والمدبر، والراحل والمقيم:

ص: 163

أقول أكاد اليوم أن أبلغ المدى

فيبعد عنى ما أقول أكاد

أسائلكم عنها فهل من مخبر

فما لى بنعم مذ نأت دارها علم

فلو كنت أدرى أين خيم أهلها

وأى بلاد الله- اذ ظعنوا- أموا

أذن لسلكنا مسلك الريح خلفها

ولو أصبحت نعم ومن دونها النجم

وذات يوم:- يقول أبو الحسن:

لما قدمت عليه وهو ساكن بمغارة فى رأس جبل، اغتسلت فى عين بأسفل ذلك الجبل وخرجت عن علمى وعملى، وطلعت إليه فقيرا، واذا به هابط إلى، وعليه مرقعة، وعلى رأسه قلنسوة من خوص، فقال لى:

مرحبا بعلى بن عبد الله الجبار، وذكر نسبى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لى:

يا على طلعت إلينا فقيرا من علمك وعملك، فأخذت منا غنى الدنيا والآخرة.

فأخذنى منه الدهش، فأقمت عنده أياما إلى أن فتح الله على بصيرتى.

وكان رضى الله عنه، يأخذ زينته عند كل مسجد، واذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا» .

أى أن الأرض- أينما كان الانسان عليها- كلها مسجد، فإن أبا الحسن كان يتحلى دائما بالثياب الحسنة.

وما كان أبو الحسن يحب التزمت فى شىء أبدا.

وفى يوم من الأيام دخل أبو العباس المرسى على الشيخ أبى الحسن، وفى نفسه أن يأكل الخشن، وأن يلبس الخشن، فقال له الشيخ:

يا أبا العباس: اعرف الله وكن كيف شئت.

ص: 164

ومن عرف الله فلا عليه أيضا ان أكل هنيئا وشرب مريئا.

وما كان أبو الحسن يتعمد قط أن يأكل الغليظ من الطعام، أو يقتصر على غير الزلال البارد من الشراب، انه يقول:

يا بنى برد الماء، فانك اذا شربت الماء السخن فقلت الحمد الله، تقولها بكزازة: وإذا شربت الماء البارد، فقلت الحمد الله استجاب كل عضو منك بالحمد لله.

وعن ذلك، وبيانا لنهج الطريقة الشاذلية، الذى رسمه أبو الحسن، يقول ابن عطاء الله:

«وأما لبس اللباس اللين، وأكل الطعام الشهى، وشرب الماء البارد:

فليس القصد إليه بالذى يوجب العتب من الله، إذا كان معه الشكر لله، ا. هـ ..

وهذا كله طبعا يتمشى مع قوله تعالى:

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ. (سورة الأعراف الآية 32) ويقول الأستاذ على سالم عمار:

«كان الشاذلى يلبس الفاخر من الثياب، ويركب الفاره من الدواب، ويتخذ الخيل الجياد» ا. هـ.

ولقد كان الجانب العلمى من العناصر الاولى التى حددت شخصية الشاذلى: لقد بدأ الدراسة والتحصيل صغيرا، فثقف كأحسن ما يكون المثقف، لقد ثقف على الطريق العادى فحفظ القرآن، ودرس السنة، ودرس العلوم الدينية، وسائل وغايات:«ولم يدخل فى علوم القوم حتى كان يعد للمناظرة فى العلوم الظاهرة» .

ص: 165

وكان: «ذا علوم جمة» وهو صاحب «العلوم الغزيرة» .

ولقد تدرج فى هذه العلوم سلما فسلما، ثم أخذ يختار الكتب التى يدرسها ويشرحها وينصح بقراءتها، ويجب فى أصحابها، وكان منها فى موضوع التفسير «كتاب التحرير الوجيز» لا بن عطية، وهو كتاب يشرحه عنوانه، فهو محرر كلماته منتقاة متميزة، محررة وعبارته دقيقة ..

وهو وجيز وان لم يكل فى إيجاز الجلالين أو البيضاوى.

وكان الشيخ ينتقل بين الأقطار إلى أن وصل إلى مصر واستمر الشيخ يدعو فيها إلى الله إلى أن كان شهر شوال سنة 656 هـ، وفى هذا الشهر أخذ الشيخ فى السفر إلى الأراضى المقدسة للحج.

فلما كان فى حميثرة بصحراء عيذاب- وهى بين قنا والقصير- جمع الشيخ أصحابه فى احدى الأمسيات، وأوصاهم بأشياء، وأوصاهم بحزب البحر وقال لهم:«حفظوه أولادكم فان فيه اسم الله الأعظم» ، ثم خلا بأبى العباس المرسى- رضى الله عنهما- وحده وأوصاه بأشياء.

واختصه بما خصه الله من البركات، ثم وجه الحديث لاصحابه من البركات، ثم وجه الحديث لاصحابه قائلا:

«أنا إذا مت فعليكم بأبى العباس المرسى، فانه الخليفة من بعدى وسيكون له بينكم مقام عظيم، وهو باب من أبواب الله سبحانه وتعالى» ، وبات تلك الليلة متوجها إلى الله تعالى ذاكرا ومعه اصحابه وهو يقول:«الهى إلهى» ! فلما كان السحر سكن فظننا أنه نام، فحركناه فوجدناه ميتا! وجاء الشيخ أبو العباس فغسله، وصلى الجميع عليه، ودفن حيث توفاه الله.

وقد كان للشيخ أولاد ذكور فلم يفكر فى أن يستخلف أحدهم وإنما أستخلف من رآه أحق بالخلافة، وترجو أن يعتبر رجال الطرق فى العصر

ص: 166

الراهن- فلا يجعلوا الطريق مورد رزق تورث كما يورث العقار.

ورحم الله أبا الحسن وطيب ثراه، ونفعنا ببركاته انه نعم المجيب ..

وكان شأن أبى الحسن الشاذلى فى التفسير شأن الشيخ محمد عبده، فقد كان الشيخ محمد عبده يأخذ تفسير الجلالين بين يديه، ويقرأ فيه ويشرح ويستفيض فى شرح رأيه هو دون أن يكون تفسيره الجلالين إلا تكأة موجزة إيجازا كبيرا.

وكان أبو الحسن الشاذلى يأخذ تفسير ابن عطية ويقرأ فيه، وفى خلال شرحه يذكر الهاماته واشاراته ..

وهى الهامات واشارات مبثوثة هنا وهناك لم تجمع فى كتاب، ولم تطبع مستقلة! ولقد سميناها اشارات لأن الاشارات الروحية، والتوجيهات الالهية للقلوب والبصائر من خلال القرآن الكريم لا يحيط بها عد، ولا يأتى عليها الزمن.

هذه الاشارات للقلوب والبصائر تنبع وتفيض وتزداد بنسبة زيادة الامعان فى تحقيق معنى العبودية لله سبحانه وتعالى.

وهى اشارات لا تحرم حلالا، ولا تحل حراما، انها ليست من تأويلات الباطنية هذه التأويلات المنحرفة، والتى يهدمها من أساسها فى سهولة ويسر عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

فقد طبق صلوات الله وسلامه عليه دين الله تطبيقا هو الاسوة التى تحتذى، والتى إذا خرج الانسان عن دائرتها فى الدين فانه يكون خاطئا ضالا ..

لقد أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته البررة الأصفياء الأوامر الالهية والنواهى الالهية عن دائرة النظريات إلى دائرة العمل، وتحدد بذلك المعنى المقصود من الأوامر والنواهى تحديدا لا لبس فيه، وكل تأويل- إذن-

ص: 167

للأوامر والنواهى يخرجها عن أن تكون مطابقة لعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة فإنما هو تأويل باطنى ضال ..

أما الاشارات التى نثبتها هنا، فانها اشارات روحية ترشد إلى معارج الروح تتسامى بازدياد الانسان فى القرب من الله عن طريق الاستقامة.

ومن اشاراته:

«من أجل مواهب الله: الرضا بمواقع القضاء، والصبر عند نزول البلاء، والتوكل على الله عند الشدائد، والرجوع إليه عند النوائب، فمن خرجت له هذه الأربع من خزائن الأعمال على بساط المجاهدة ومتابعة السنة، والاقتداء بالأئمة فقد صحت ولايته لله ولرسوله وللمؤمنين:

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (سورة المائدة الآية 56) ومن خرجت له من خزائن المنن على بساط المحبة فقد تمت له ولاية الله بقوله:

وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ..

ففرق بين الولايتين: فعبد يتولى الله، وعبد يتولاه، فهما ولايتان:

صغرى وكبرى.

فولايتك الله: خرجت من المجاهدة، وولايتك لرسوله: خرجت من متابعتك لسنته، وولايتك للمؤمنين: خرجت من الاقتداء بالأئمة، فافهم ذلك من قوله:

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ

ص: 168

وقال الشيخ أبو العباس رضى الله عنه: كنت مع الشيخ فى سفره ونحن قاصدون إلى الاسكندرية حين مجيئنا من المغرب، فاخذنى ضيق شديد حتى ضعفت عن حمله، فأتيت إلى الشيخ أبى الحسن رضى الله عنه، فلما أحس بى قال:

أحمد- قلت: نعم يا سيدى ..

قال آدم خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه الجنة نصف يوم- خمسمائة عام- ثم نزل به إلى الأرض،، والله ما نزل الله بآدم إلى الأرض لينقصه، ولكن نزل به إلى الأرض ليكمله- ولقد أنزله إلى الأرض من قبل أن يخلقه بقوله:

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (سورة البقرة الآية 28) ما قال فى الجنة ولا فى السماء، فكان نزوله إلى الأرض نزول كرامة، لا نزول اهانة، فانه كان يعبد الله فى الجنة بالتعريف فأنزله الله الأرض ليعبده بالتكليف، فلما توفرت فيه العبوديتان استحق أن يكون خليفة- وأنت أيضا لك قسط من آدم: كانت بداية فى سماء الروح فى جنة المعارف فأنزلت إلى النفس لتعبده بالتكليف، فلما توفرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة ..

وفى قوله تعالى:

وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (سورة الطلاق الآية 2) فسر سهل بن عبد الله هذه التقوى من الحول والقوة وعدل عما تزين به الباطلون من مظاهر التقوى مع دنس باطنه وهذا صحيح فى عبد ظاهر المعاصى والشهوات ويحمل نفسه على أنواع الطاعات وقد سد الافق

ص: 169

بالدعاوى، وأضاف الحول والقوة إلى نفسه: فهذا عبد قد جاوز الحدود، وأعظم الفرية والعجب فلا يقوم خيره بشره، والمحققون ينسبون له الأشياء وينظرون إلى البواعث والثمار، فاذا فقدت الثمار علموا أن علمه وعمله مدخولان، وإذا فقدت البواعث الصحيحة فى الاصول فلا يعتبرون بأعمالهم، قال الله عز وجل:- وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً فيا مدعى التقوى أين المخرج؟ فإذا رأيت المخرج (ثمرة لتقواك) وذلك وعد الله وضمانه (فأنت على الصواب والخير)، وإذا لم تجد بتقواك إلا تجبرا فمن الصادق ومن الكاذب؟

ومن أصدق من الله قيلا:

وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (سورة الطلاق الآية 2) ولا يصح التوكل إلا لمتق.

ولا تتم التقوى إلا لمتوكل.

فدققوا النظر فى البواعث والاصول والثمار والله يحب الصابرين ..

ولا يتأتى أن نترك حياة أبى الحسن دون أن ننبه إلى موقفه من معركة المنصورة:

بدأ الصليبيون يزحفون صوب المنصورة وكانت مصر آنذاك تضم بين أرجائها نخبة ممتازة من العلماء الدينيين الذين أخلصوا جهادهم لله وحده، فلم تغرهم الدنيا بزخرفها وزينتها.

كان فى مصر اذ ذاك: العز بن عبد السلام، ومجد الدين القشيرى، ومحيى الدين بن سراقة، ومجد الدين الاخميمى، وأبو الحسن الشاذلى، وغيرهم من خيرة العلماء.

ص: 170

لم يستقر هؤلاء العلماء فى دورهم البعيدة عن الخطر، وإنما هبوا جميعا للجهاد فى سبيل الله، لقد هاجروا إلى المنصورة ليكونوا بين المجاهدين، ورغم أن العارف بالله أبا الحسن الشاذلى كان فى آخر حياته، وكان قد كف بصره، فانه كان فى مقدمة الذاهبين إلى المنصورة!!! ها هم أولئك العلماء الصوفية، أو الصوفية العلماء، بسمتهم الملائكى، وبايمانهم الذى لا يتزعزع يسيرون وسط الجند، يحثون ويشجعون، ويرشدون ويذكرون بالله، ويبشرون- كما وعد الله- باحدى الحسنيين: النصر أو الجنة.

وإذا لزم الامر عملوا بأيديهم مع العالمين.

ولقد كان مجرد سيرهم فى الحوارى والشوارع: تذكيرا بالنصر أو الجنة، وكان حفزا للهمم، وتثبيتا للايمان، وتأكيدا لصورة الجهاد الاسلامية التى قادها فى عصور الاسلام الاولى رسول الله صلوات الله عليه، وخلفاؤه الراشدون، رضوان الله عليهم ..

حتى إذا اطمأنوا إلى الأسباب والوسائل: المادية الظاهرة، والمعنوية الباطنة، اجتمع هؤلاء الاعلام فى خيمة من خيام المعسكر نعم فى خيمة من خيام المعسكر يتجهون إلى الله بصلاتهم ودعائهم، يلتمسون منه النصر، فاذا ما فرغوا من ذلك أخذوا يتدارسون كتابا من الكتب

وشغل أبو الحسن بأمر المسلمين، فكان ليله ونهاره مشغولا بالله فى أمرهم حتى إذا ما أخذته سنة من النوم ليلة من الليالى، رأى فيما يرى النائم، رؤى تتعلق بحالة المسلمين فى المنصورة ومن: الرؤيا التى حكاها كتاب «درة الاسرار» قال:

«قال الشيخ أبو الحسن: كنت بالمنصورة، فلما كانت ليلة الثامن من ذى الحجة، بت مشغولا بأمر المسلمين وبأمر الثغر، وقد كنت أدعو الله وأضرع إليه فى أمر السلطان والمسلمين.

ص: 171

فلما كان آخر الليل، رأيت فسطاطا واسع الأرجاء، عاليا فى السماء، يعلوه نور ويزدحم عليه خلق من أهل السماء، وأهل الأرض عنه مشغولون، فقلت:

لمن هذا الفسطاط؟

فقالوا:

لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فبادرت إليه بالفرح، ولقيت على بابه عصابة من العلماء والصالحين نحوا من السبعين، أعرف منهم الفقيه عز الدين بن عبد السلام، والفقيه مجد الدين مدرس قوص، والفقيه الكماب بن القاضى صدر الدين والفقيه المحدث محيى الدين بن سراقة، والفقيه عبد الحكيم بن أبى الحوافز ومعهم رجلان لم أعرف أجمل منهما، غير أنى وقع لى ظن فى حالة الرؤيا: أنهما الفقيه زكى الدين عبد العظيم المنذرى المحدث والشيخ مجد الدين الاخميمى

وأردت أن أتقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالزمت نفسى التواضع والادب مع الفقيه ابن عبد السلام وقلت: لا يصلح لك التقدم قبل عالم الامة فى هذا الزمان، فلما تقدم وتقدم الجميع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليهم يمينا وشمالا:

أن اجلسوا وتقدمت، وأنا أبكى بالهم والفرح، أما الفرح، فمن أجل قربى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسب، وأما الهم فمن أجل المسلمين والثغر، وهم، طلبى إليه صلى الله عليه وسلم، فمد يده حتى قبض على يدى، وقال:

لا تهتم كل هذا الهم من أجل الثغر، وعليك بالنصيحة لرأس الامر- يعنى السلطان- فان ولى عليهم ظالم فما عسى؟ وجمع اصابع يده الخمسة فى يده اليسرى كأنه يقلل المدة.

وان ولى عليهم تقى: «الله ولى المتقين» وبسيط يده اليمنى واليسرى.

وأما المسلمون فحسبك الله ورسوله وهؤلاء المؤمنون- أى العلماء والفقهاء والصالحون بالمجلس وقال:

ص: 172

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ.

وأما السلطان فيد الله مبسوطة عليه برحمته من والى أهل ولايته ونصح المؤمنين من عباده فانصحه واكتب له وقل فى الظالم عدو الله قولا بليغا:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (سورة الروم الآية 60) فقلت: نصرنا ورب الكعبة، وانتبهت، ونصر الله المسلمين نصرا مؤزرا، وأسر الملك لويس، وأسر الكثيرون من قواده، وأشاد الشعراء بهذا النصر.

ومن قصيدة مشهورة لابن مطروح نقتطف منها ما يلي: قال يخاطب لويس:

وكل أصحابك أودعتهم

بحسن تدبيرك بطن الضريح

سبعون الفا لا يرى منهمو

إلا قتيل أو أسير أو جريح

وقل لهم ان أزمعوا عودة

لأخذ ثار أو لفعل قبيح

دار ابن لقمان على حالها

والقيد باق والطواشى صبيح

ص: 173