الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمام ابن قتيبة وتفسيره
هو الإمام العالم الفاضل أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى وقيل المروزي، الإمام النحوى اللغوى المصنف فى فنون التفسير والحديث وغيرهما من الفنون. ولد سنة 213 هـ.
وسكن بغداد، وحدث بها عن ابن راهويه، وتتلمذا لكثير من المشاهير كمسلم بن قتيبة والده، والقاضى يحيى بن أكثم وأبى حاتم السجستانى وشبابة بن سوار والجاحظ.
وروى عنه ابنه أحمد وابن درستويه وغيرهما، وأخذ عنه العلم كثير من العلماء كأحمد بن مروان المالكى. وقاسم بن إصبع الأندرسى وأبو القاسم عبد الله بن محمد الأزدى وغيرهم.
تولى ابن قتيبة قضاء الدينور مما يدل على غزارة علمه وسعة فضله وتفرغ للبحث والدراسة والجمع والتحصيل، ثم مارس التأليف فطال فيه باعه، وظهر به فضله، وكان من كبار المجتهدين، ومن مؤلفاته الهامة ما يلى:
أدب الكاتب.
عيون الأخبار.
تأويل الحديث.
تأويل مشكل القرآن.
غريب القرآن.
المعارف.
الشعر والشعراء.
الاختلاف فى اللفظ والرد على الجهمية.
ويهمنا من هذه الكتب ما يتصل بالتفسير وعلومه حيث تبدو خدمته للقرآن واضحة، ومنهجه فى تأويل الكتب المتصلة بعلومه سليما غاية السلامة، نافعا كل النفع.
وقد تحدث ابن قتيبة فى كتابه تأويل مشكل القرآن عن القرآن فقال:- الحمد الله الذى نهج لنا سبيل الرشاد، وهدانا بنور الكتاب، ولم يجعل له عوجا، بل نزله قيما، مفصلا بينا.
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. (سورة فصلت الآية 42) وشرفه وكرمه، ورفعه وعظمه، وسماه روحه ورحمة، وشفاء، وهدى ونورا.
وقطع منه بمعجز التأليف أطماع الكائدين، أبانه بعجيب النظم عن جيل المتكلفين وجعله متلوا لا يمل على طول التلاوة، ومسموعا لا تمجه الآذان، وغضا لا يخلق على كثرة الرد وعجيبا لا تنقضى عجائبه، ومفيدا لا تنقطع فوائده .. ونسخ به سالف الكتب، وجمع الكثير من معانيه فى القليل من لفظه، وذلك معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أوتيت جوامع الكلم).
فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر قوله سبحانه:
«خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» .
كيف جمع له بهذا الكلام كل خلق عظيم، لأن فى أخذ العفو صلة القاطعين والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين.
وفى الأمر بالعرف تقوى الله، وصلة الأرحام، وصون اللسان عن الكذب وغض الطرف عن الحرمات.
وإنما سمى هذا وما أشبهه عرفا ومعروفا لأن كل نفس تعرفه، وكل قلب يطمئن إليه.
ويستطرد فى التمثيل لإيجاز القرآن فى اللفظ مع وفرة المعانى التى تدل عليها الألفاظ القليلة .. ومما ذكره فى ذلك قوله تعالى:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ؟. (سورة يونس الآية 42، 43) كيف دل على فضل السمع على البصر، حين جعل مع الصمم فقدان العقل ولم يجعل مع العمى إلا فقدان النظر.
وكان من المنافحين عن لغة العرب، الكاشفين عن أسرارها، الموضحين لمزاياها وخصائصها وإنه يقول عن العرب وما خصهم الله به من العارضة والبيان واتساع المجال.
وإنما يعرف فضل القرآن من كثرة نظره، واتساع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها فى الأساليب، وما خص الله به لغتنا دون جميع اللغات، فإنه ليس فى جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان، واتساع المجال ما أوتيته العرب خصيص من الله لما أرهصه فى الرسول، وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب، فجعله علمه، كما جعل علم كل نبى من المرسلين من أشبه الأمور بما فى زمانه المبعوث فيه:
ويطول بنا المقام لو استعرضنا ما ذكره من أمثلة على ذلك، ويكفينا هنا قوله:
ولو أن قائلا قال: هذا قاتل أخى بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخى بالإضافة لدل التنوين على أنه لم يقتله، ودل حذف التنوين على أنه قد قتله:
ويتعرض ابن قتيبة لبعض المعانى المقصودة من الآيات التى عجز عن فهمها كثير من الناس، وظن البعض أنها تعارض العقل.
ومن أجمل ما ذكره فى ذلك ردا على ما قيل عن تكرار الكلام والزيادة، ومما يقوله فى ذلك.
وأما تكرار الأنبياء والقصص، فإن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن نجوما «أجزاء متفرقة» فى ثلاث وعشرين سنة، بفرض بعد فرض تيسيرا منه على العباد، وتدريجا لهم إلى كمال دينه، ووعظ بعد وعظ، تنبيها لهم من سنة الغفلة، وشحذا لقلوبهم بمتجدد الموعظة، وناسخ بعد منسوخ، استعبادا لهم، واختبارا لبصائرهم يقول الله عز وجل:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا.
(سورة الفرقان الآية 32) الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد والمقصود به بالتثبيت أنه هو والمؤمنون.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السّامة عليهم أى يتعهدهم بها عند الغفلة ودثور القلوب.
ولو أتاهم القرآن نجما واحدا لسبق حدوث الأسباب التى أنزله الله بها، ولثقلت جملة الفرائض على المسلمين، وعلى من أراد الدخول فى الدين، ولبطل معنى التنبيه، وفسد معنى النسخ، لأن المنسوخ يعمل به مدة ثم يعمل بناسخه بعده.
وكيف يجوز أن ينزل القرآن فى وقت واحد. افعلوا كذا ولا تفعلوا .. ولم يفرض الله على عباده أن يحفظوا القرآن كله، ولا أن يختموه فى التعلم، وإنما أنزله ليعملوا بحكمه، ويؤمنوا بمتشابهه، ويأتمروا بأمره، وينتهوا بزجره، ويحفظوا للصلاة مقدار الطاقة ويقرءوا فيها الميسور.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم وهم مصابيح الأرض، وقادة الأيام بمنتهى العلم، إنما يقرأ الرجل منهم السورتين والثلاث والأربع، والبعض والشطر من القرآن الا نفرا منهم وفقهم الله لجمعه، وسهل عليهم حفظه ..
وكانت وفود العرب ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرئهم شيئا من القرآن فيكون ذلك كافيا لهم.
وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثناة ومكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم، وقصة لوط إلى قوم.
فأراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص فى أطراف الأرض، ويلقيها فى كل سمع ويثبتها فى كل قلب، ويزيد الحاضرين فى الإفهام والتحذير ..
وليست القصص كالفروض، لأن كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تنفذ إلى كل قوم بما فرضه الله عليهم من الصلاة، وعددها وأوقاتها والزكاة وسننها، وصوم شهر رمضان وحج البيت، وهذا ما لا تعرف كيفيته من الكتاب .. ولم تكن تنفذ بقصة موسى وعيسى ونوح وغيرهم من الأنبياء، وكان هذا فى صدر الإسلام قبل إكمال الله الدين، فلما نشره الله عز وجل فى كل قطر، وبثه فى آفاق الأرض، وعلم الأكابر الأصاغر، وجمع القرآن بين الثقلين زال هذا المعنى واجتمعت الأنباء فى كل مصر، وعند كل قوم ..
هذه بعض الملامح لتفكير ابن قتيبة وعلمه فيما يتصل بالقرآن. وكل
ما صدر منه فى ذلك ينبئ عن فكر ناضج، وعلم واسع، وحرص على الروح العلمية السليمة، العاملة على كشف الشبهات، وإزالة الأباطيل، وبيان وجه الحق فيما تعرض له من شئون.
وكان ابن قتيبة معنيا بالرد على الشبه التى تثار حول النصوص الدينية وخاصة من المعتزلة ونحوهم ملتزما للمنهج العلمى فى ذلك، فاستحق ثناء العلماء عليه.
قال ابن خلكان:
كان فاضلا ثقة سكن بغداد، وحدث بها عن اسحاق بن راهويه وأبى اسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان وأبى حاتم السجستانى وتلك الطبقة وتصانيفه كلها مفيدة.
وقال الذهبى فى المغنى عنه: صدوق.
وقال الخطيب: ثقة.
وكانت وفاته فجأة سنة 276 هـ، إذ أكل هريسة فأصابته حرارة فصاح صيحة شديدة ثم أغمى عليه، ثم أفاق، فما زال يتشهد حتى مات- الله ونفع بعلمه ..