الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جنود الحق، وأنصار الفضيلة، وتكريم الله لهم في هذه الحياة، وتلك الحياة خير وأبقى.
*
خطبة الإمام في حفل افتتاح فرع جمعية الهداية الإسلامية بالجيزة
(1):
أيها السادة! من الذي لا يدري أن المسلمين كانوا أقوم الأمم سيرة، وأسعدها حياة، وأشرفها مظهراً، يفجرون ينابيع العلم إذا فكروا، ويرفعون لواء الظفر إذا دافعوا، ويبسطون ظلال العدل إذا حكموا، وهم الذين أحكموا صناعة السياسة الممزوجة بالرفق، المحوطة بالحزم، يعرف ذلك شبانهم كما يعرفه شيوخهم، ويشهد به خصومهم كما يشهد به أعقابهم. فلست في حاجة إلى أن أعرض على حضراتكم صفحة من تاريخهم المجيد، وإنما أريد أن أذكركم بأن ذلك الانقلاب الخطير، بل الإصلاح الذي لا يعرف له التاريخ من نظير، لم يكن صنع مفكر عبقري، ولا نتيجة تدبير بشري، وإنما هو أثر الحكمة التي نزل بها القرآن الكريم، وجرت على لسان ذلك الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.
فتح المسلمون الشرق والغرب، وحملوا إلى الأمم إصلاحاً لم تحمله إليها أمة من قبل ولا بعد، وحدث بعد هذا أن تزعزعت أركان عظمتهم، وكسفت شموس فخارهم، فإذا هم في ظلمات بعضها فوق بعض، فلم تبق لهم عين تبصر ماذا تعده الأمم الأخرى من قوة، ولم تبق لهم أذن تحس ما تبيته تلك الأمم من خطط الهجوم، فصاروا في غفلة وغيرُهم في يقظة،
(1) مجلة "الهداية الإسلامبة" - الجزء الثاني عشر من المجلد السادس. احتفلت الجيزة بافتتاح نادي فرع جمعية الهداية الإسلامية فيها مساء الأحد 23 جمادى الآخرة عام 1353 هـ، وألقى الإمام هذه الخطبة.
صاروا في بطالة وغيرهم في عمل، صاروا في لهو وغيرهم في جد، صاروا في تفرق وغيرهم في اتحاد، صاروا في تخاذل وغيرهم في تعاون، صاروا في خمول وغيرهم في ظهور، فكانت عاقبتهم شقاء بعد سعادة، ذلة بعد سيادة:
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا
…
شكر عليه فإن الله ينزعه
أطلق أولو الألباب أنظارهم ليتعرفوا أسباب هذه الحالة الممزقة للأفئدة، فاهتدوا إلى أن العلة التي أكلت اللحم، وشربت الدم، وأوهت العظم، هي انصرفنا عن أوامر الدين الحنيف، ونبذنا لوصاياه العالية وراء ظهورنا، فتهاوناّ بالواجبات، وانقدنا إلى الشهوات، ولم ننتفع بالعظات البالغات.
قام دعاة الاصلاح يصفون تلك العلة القاتلة، وينادون بالرجوع إلى الدين الحق في غير تباطؤ، ويبينون كيف تنطبق أصوله الصحيحة وآدابه السنية، على قوانين مكارم الأخلاق، ومقتضيات المدنية الفاضلة، فأخذ الناس ينتبهون من سباتهم، ويفتحون لنصائح أولئك الدعاة قلوبهم، فقلنا: حياة جديدة، ونهضة مباركة.
وحدث بعد هذا أن خرج بعض الزائغين في ثوب الدعوة إلى الإصلاح، وصاروا يقلبون الحقائق، ويدسون السم في الدسم، وبدت الزندقة والإباحية على أفواههم، حتى نعق غراب من غربانهم قائلاً: إن سبب تأخر المسلمين ربطُهم السياسة بالدين، ولا ندري متى ربط المسلمون السياسة بالدين فتأخروا، ولا متى فصلوها عنه فتقدموا!.
وما كفى هؤلاء الزائغين أن يكونوا في أنفسهم ملاحدة إباحيين، بل تصدوا للدعاية إلى اللهو والباطل والفجور تحت اسم: الحرية والتجديد.
اتصلتْ هذه الدعاية الخائنة بشبان لم ينبتوا نباتاً حسناً، ولم يتعدوا قشور العلم إلى لبابه، فتزلزلت عقائدهم، وساءت أخلاقهم، وأصبحت الأمة تذكرهم في أسف، وتتمثل بقول الشاعر:
وإخوان حسبتهم دروعاً
…
فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات
…
فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا: قد صفت منّا قلوب
…
نعم صدقوا، ولكن من ودادي
وبلي المسلمون بعد طاعون الإلحاد بدعايات أخرى مضلة عن السبيل؛ كدعاية البهائية والقاديانية، ومن يسمون أنفسهم: المبشرين.
ولحماية أبنائنا من مرض الإلحاد، وإنقاذهم من شرور تلك الدعايات، أسست جمعية الهداية الإسلامية، ويضاف إلى هذا: عنايتها بإحياء اللغة العربية، وترقية آدابها، ثم سعيها في عقد رابطة التعارف بين الشعوب الإسلامية، ولا سيما رجال العلم والأدب، ومن لهم سابقة في خدمة الإسلام والمسلمين.
تعمل الجمعية لهذه الأغراض السامية بما يُلقيه حضرات أعضائها أو مؤازريها من خطب ومحاضرات، وبما يحررونه في مجلتها من مقالات، وبما تقيمه لتكريم العلماء أو الفضلاء المخلصين من حفلات، وقد قطعت -بتأييد الله تعالى- في العمل لهذه الأغراض أشواطاً بعيدة، وهي صحيحة العزم، رشيدة الرأي، ثابتة الخطا.
ومن أسباب نجاح الجمعية -بعد توفيق الله تعالى-: أنها تتوخى في دعوتها سبيل الرفق والحكمة، وتتحامى أن تخوض في أمور تثير عداوة طائفة من الطوائف الإسلامية، فإن دعاها الحال إلى تقرير حقيقة يخالف فيها بعض الطوائف، بيناها بقول لين، دون أن نمس الطائفة المخالفة بكلمة جافية،
نفعل ذلك امتثالاً لنصيحة القرآن، وحذراً من أن نحدث تقاطعاً بيننا وبين قوم مسلمين.
ومن أسباب نجاح الجمعية: أنها لم تحد عن الخطة التي أخذتها على نفسها من العناية بالشؤون الإسلامية والعلمية والأدبية والاجتماعية، وعدم التدخل في الشؤون السياسية والإدارية، والسياسةُ الرشيدة يناء أساسُه الإيمان الراسخ والآداب السنية، والعلوم الصحيحة، واللغة الراقية، ويكفي الجمعية أن توجه همتها لإصلاح الأساس حتى يكون البناء مستقيماً محكماً.
هذه أغراض جمعية الهداية الإسلامية، وهذه سيرتها، وقد تعرفها نخبة من شباب الجيزة النجباء، فارتاحت لها نفوسهم الطيبة، ورأوا أن الجيزة في حاجة إلى جمعية تسير هذه السيرة، وتعمل لهذه الأغراض، فزاروا مركز الجمعية العام، وعرضوا رغبتهم في إنشاء فرع لها في هذا البلد الكريم، فرأينا سيماء الإخلاص في وجوههم، فأكبرنا همتهم، وبادرنا إلى إجابة رغبتهم، فأنشؤوا هذه الجمعية المحتفل بافاتتاحها، وألفوا مجلس إدارتها من أساتذة أجلاء، وفتيان مخلصين نبهاء، فجمعوا إلى تجارب الأساتذة ورويتهم، نشاطَ الفتيان ومضيَّ عزائمهم.
ونحن على ثقة من أن هذه الجمعية ستسير بجانب الجمعية القائمة بالقاهرة، تقصد قصدها، وتنسج على مثالها، فنراهما -بتوفيق الله تعالى- متعاونين على الدعوة إلى الحق والفضيلة، يرودهما الإخلاص، ويحالفهما الثبات، وما كان الإخلاص رائده، والثبات حليفه، فذلك العمل الصالح الذي يكتب الله له النجاح، وينفع به الناس.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].