الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقصير في الدفاع، حتى يجر إلى صاحبه عاراً، أو يسيغ لمن بيدهم الأمر أن يصرفوا عنه أنظارهم، ويتركوه في أيدي العدو، يلاقي المهانة أو سوء العذاب.
كان هاشم بن عبد العزيز أحد وزراء محمد بن عبد الرحمن الأموي بالأندلس قائد جيش، ووقع أسيراً في يد العدو، فنسبه الأمير محمد إلى الطيش والاستبداد بالرأي، فقام الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم يدافع عنه في مجلس الأمير، ومما قال في الاعتذار عنه:
"إن هاشماً قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يكن ملاك النصر بيده، فخذله من وثق به، ونكل عنه من كان معه، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتى ملك مقبلاً غير مدبر، ومبلياً غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وعن سلطانه، فإنه لا طريق للملام عليه، وليس عليه ما جنته الحرب القشوم". فأعجب الأمير بكلام الوليد، وأقصر فيما بعد عن تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه.
فمن واجبات الدولة أو الأمة: تخليص من يقع في أسر بالوسائل المستطاعة من مال أو غيره، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الواجب بقوله:"فكوا العاني -الأسير-، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض".
*
تقدير البطولة:
البطل يقف المواقف الخطيرة، ويجود بحياته في دفاع العدوة لتعلو كلمة الحق، وتحيا الأمة حياة الكرامة، فهو جدير بأن يلاقي من الأمة التبجيل والتكريم. وشعور البطل بأنه يعمل لخير أمة تقدر رجالها حق قدرهم، مما يزيد إقباله وثباته على الدفاع قوة، وإذا شعر غيره بهذا التقدير، فقد يقوى
حرصه على أن يسلك سبيله، ويبذل كل ما يعز عليه في سبيل سلامة الوطن، وسيادة الأمة.
سئل بعض الحكماء عن أشد الأشياء تدريباً للجنود، فذكر أشياء، وقال:"الإكرام للجيش بعد الظفر، والتشريف للشجاع على رؤوس الناس".
ولتكريم الأبطال مظاهر: منها: الاحتفال بتوديعهم عند الخروج للحرب؛ كما خرج الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه يشيع أسامة بن زيد والجيشَ المسافر معه إلى الشام، وكان أبو بكر ماشياً على قدميه، وأسامة راكباً راحلته.
وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشيع سعد بن أبي وقاص والجيشَ المسافر إلى فتح فارس حتى بلغ موضعاً يقال له: الأعوص، وهناك خطب فيهم خطبة أوصاهم فيها بالعدل والرحمة، إلى نحو هذا، وعاد إلى المدينة.
وكان اليوم الذي خرج فيه أسد بن الفرات (1) من القيروان لفتح صقلية يوماً مشهوداً.
ويضاهي هذا: استقبالهم، والاحتفاء بهم عند إيابهم من حرب أبلوا فيها بلاء حسناً.
ومن مظاهر تقدير الأبطال المخلصين: عناية ولي الأمر بأن يكون عيشهم في رخاء، وأن يكونوا في أمن على إصلاح شأن أطفالهم إذا استشهدوا.
جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه بين سهم الراجل والفارس، فأعطاه خمسة أسهم؛ لعظم غَنائه في تلك الغزوة.
وزاد عمر بن الخطاب في عطاء فتاة من بيت المال، وقال: "إن
(1) توفي أسد في حصار "سرقوسة" شهيداً، وهو أمير الجيش وقاضيه سنة 213.
أباها فتح حصناً".
ومن وجوه تقدير الأبطال: صوغ عبارات الشكر والثناء عليهم في نظم أو نثر، وفي الأدب العربي قسم عظيم في الثناء على الأبطال، والتنويه بذكر مقاماتهم المجيدة، قال أبو تمام:
كم بين قوم إنما نفقاتهم
…
مال وقوم ينفقون نفوسا
وبطولة الرجل تطلق الألسنة بتمجيده، حتى ألسنة خصومه الذين تجرعوا من شدة بأسه مرارة، خرج يزيد بن المهلب على يزيد بن عبد الملك، فوجه لقتاله أخاه مسلمة بن عبد الملك، وثبت يزيد بن المهلب في قتاله، وأبى أن يفر، وقد تسلل عنه أعوانه، حتى قتل، وأراد أحد جلساء يزيد بن عبد الملك أن ينال من ابن المهلب، ويحط من شأنه، فقال له يزيد بن عبد الملك:"إن يزيد طلب جسيماً، وركب عظيماً، ومات كريماً".
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم
…
بين طعن القنا وخفق البنود
ومن تقدير البطولة: الإغضاء عن أخطاء تصدر من البطل وهو يحارب العدو بعزم صميم، وعدم مناقشته الحساب على مآخذ قد يشفع له فيها إخلاصه، والإخلاص القائم بجانب البطولة شفيع أي شفيع!.
بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لدعوة بني جذيمة إلى الإسلام، فسبقت يد خالد إلى قتل رجال منهم باعتقاد أنهم يستحقون القتل، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر ما فعل خالد، وقال:"اللهم أني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد! "، وأرسل إلى بني جذيمة مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ديات من قتلوا، وأعطاهم قيم ما أصيب من أموالهم، وزادهم على ما استحقوا من الديات وقيم الأموال، ولم يعزل خالداً عن قيادة الجيش.
وفي الختام أقول: هذه فصول في آداب الحرب أسوق حديثها تذكرة لجيوشنا الإسلامية في مصر وغير مصر، عسى أن يقرؤوها بتدبر، ويستقيموا على طريقتها، فتخفق ألويتهم بالنصر، ويخرجوا بلاد الإسلام من خمول إلى نباهة شأن، ومن هُون إلى عزة، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].