الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمتها هي العليا.
سادتي! إذا أقمنا هذا الاحتفال لتأكيد رابطة التعارف والصداقة بيننا وبين حضرات إخواننا الصينيين وغيرهم من أبناء الأقطار الإسلامية، فإنما نعمل لناحية من نواحي الإصلاح، فنقدم جزيل الشكر لحضرات أعضاء بعثة الإخاء الإسلامي، وبعثة فاروق الأول، وسائر من أجابوا دعوتنا، فلجميعهم الفضل في هذه الحفلة القائمة على صفاء، المشرقة بنور الإخاء، والسلام عليكم ورحمة الله.
*
مصاب تونس بوفاة عالم جليل
(1):
أصيبت تونس بوفاة العلامة الجليل صديقنا الأستاذ الشيخ السيد محمد الصادق النيفر قاضي القضاة في تونس سابقاً، فقد كان الأستاذ رحمه الله أحد النوابغ الذين أنبتتهم الجامعة الزيتونية نباتاً حسناً، وكان له فضل كبير في النهضة العلمية الحديثة.
وقد قدرت الجمعيات العلمية والأدبية في تونس قدر الأستاذ الراحل، فأقاموا له عند مرور أربعين يوماً على وفاته حفلة تأبين ألقى بها كثير من العلماء والأدباء خطباً وقصائد أتوا فيها على ما كان للفقيد من غزارة علم، وسمو أخلاق، وجهاد في سبيل الحركة الوطنية السياسية.
وكانت لجنة هذه الحفلة أشعرت رئيس تحرير هذه المجلة بما عزمت عليه من تأيين صديقه الأستاذ، فاختار أن يشترك بتلك الحفلة بكلمة في صلة الصداقة التي انعقدت بينه وبين الأستاذ رحمه الله، وبعث إلى اللجنة بالكلمة الآتية:
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد العاشر.
طالعت المجلة الزيتونية الزاهرة، فوقع نظري على عنوان:"رثاء فقيد العلم الإمام محمد الصادق النيفر"، فرماني هذا العنوان بسهم من نار، فإذا الفؤاد يتلظى، والفكر يتقلب في ذكريات العهد الذي كنت اْتمتع فيه بصحبة الأستاذ الفقيد، ورابطة الصداقة بيني وبينه خالصة محكمة.
تقدمت الأستاذ الراحل في تلقي العلم ببضع سنين، وكنت أراه فيمن أرى من طلاب العلم وهو يشار إليه بأنه حفيد العلامة القاضي في ذلك العهد الشيخ محمد الطاهر النيفر، وكنت ألاقي الفقيد في الطريق، فيبادرني بالتحية، فأقدر له ذلك الأدب السنيّ.
واللبنة الأولى في بناء صداقته المتين: أني كنت جالساً يوماً بالجامع الأعظم، فأقبل رحمه الله وجلس يحييني في تواضع زاده في عيني رفعة، وأبدى رغبة في دراسة علمي العروض والقوافي، وأذكر -إن لم تخني الذاكرة- أنا قرأنا على وجه المذاكرة فصلاً أو فصلين من علمي العروض والقوافي بالحجرة القائمة على يمين المصلى بالمعهد الزيتوني، فعرفت في ذلك الفتى يومئذ نباهة الألمعي، وأدب الماجد السريّ، وانتظمت الصداقة بيني وبينه في صفاء وسماحة.
وما زال ذلك الفتى البارع مجداً في طلب العلم، حتى رأيته أستاذاً يدرس الكتب العالية بالمعهد الزيتوني، وطلابُ العلم يزدحمون على دروسه، ويردونها ورود الظِّماء للماء الزلال.
وأذكر أني أديت صلاة بعض الجمعات في جامع باب البحر، وكان الأستاذ الراحل رحمه الله يلقي على منبره خطباً بليغة، يراعي في اختيار مواضيعها ما يستدعيه الحال، وكنت أعجب بما أسمع، وآنس من تلك الخطب فواتح
إصلاح الخطابة المنبرية في تونس.
ولا أنسى الليالي -ليالي الجمعة من كل أسبوع- إذ كان الأستاذ يتفضل فيها بالزيارة، ونقضيها في أسمار ممتعة، يجاذبنا أطراف أحاديثها فريق من طلاب العلوم والآداب.
ثم لا أنسى أوقاتاً عصفت فيها رياح بعض الرياسات، وأدارت وجوه بعض الإخوان إلى ناحية غير ناحيتنا، ورأيت الأستاذ الراحل من أشد الإخوان احتفاظاً بحقوق الصداقة، شأن من يعتز بعلمه ومجده، ولا يرضى أن يكون لاتجاه بعض الرياسات أثر في وصل صداقته وقطعها.
كانت ذكريات ذلك العهد تخطر، فتجد في النفس أمل لقاء ذلك الصديق الراحل، وتجديد ما درس من عهد الأنس به، فلا تثير من الأسى ما يجرح الفؤاد من كل ناحية، أما اليوم، وقد ذهب ذلك الأمل، فأراها تخطر فتثير أشجاناً يذوب لها القلب، وتتساقط لها العبرات.
أجل! ذهب ذلك الأمل المروِّح على القلب، وأصبحت ذكريات تلك الصداقة تبعث الحسرات فتجعلها ركاماً، وإن كان هناك ما يخفف من وقع هذا المصاب، فهو أملنا أن يكون لعلم الأستاذ الراحل وفضله ورثة من أنجاله النجباء، يحفظون التالد، ويعززون التالد بالطريف.
ويوطد هذا الأمل: أن بيت آل النيفر قد عرف بأنه منبت العلماء الراسخين، والأدباء البارعين، وإني ألمح في شباب هذا البيت اليوم همماً طماحة للمعالي، وجهوداً من أصدق الجهود التي تبذل لإعلاء شأن العلم والأدب والفضيلة. وأقدم لآل الفقيد على هذه الفاجعة خالص التعزية، وأسأل الله تعالى أن يفيض على ضريحه نوراً ورحمة، ويحسن جزاءه على ما بذل في سبيل الخير من همة،