الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الروح العسكرية في الإسلام
(1)
نقلِّب النظر في تاريخ الأمم التي بلغت الذروة في العزة والسيادة، فنجدها إنما بلغت تلك الذروة بما ملكت من قوة الروح العسكرية، فبقوة الروح العسكرية تسلم البلاد من خطر يمتد إليها من الخارج، وبهذه القوة يستتب الأمن في داخل البلاد على ما يرام، ذلك أن قوة الروح العسكرية تجعل الأمة قوية الشوكة، نافذة الإرادة، مرهوبة الجانب.
وقد كان في الأمة العربية وهي في جاهليتها روح عسكرية شديدة البأس، يتمثل هذا في أشعارهم، وكثرة أيام حروبهم، ولكنها روح قد تخرج عن حدود العدل، ولا تبالي أن تبدأ بالظلم، فجاء الإسلام وعدَّلها، وهذَّب حواشيها، وحاطها بنظم حكيمة، فانتقلت إلى طور أرقى، ولبست رداء أنقى، وأصبحت هذه الروح مصدر خيرات لا يتلقاها الناس إلا من ناحيتها.
وليس من شك في أن الدفاع عن الحقوق والمصالح الخاصة أو العامة يعد في أمجد الأعمال التي يتنافس فيها حماة الحرية وأنصار الإنسانية.
تقوى الروح العسكرية في القوم متى طبعوا على خلق الشجاعة، واستنارت أذهانهم بمعرفة فنون الحرب، وملكوا من وسائل الدفاع ما يقتضيه حال العصر، فلا عجب أن ترى القرآن الكريم قد توجه إلى هذه الأصول الثلاثة
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد السادس عشر.
بعناية كبيرة، فأرسل الحِكَم التي تربي في النفوس خلق البطولة، وحفز الدواعي لإعداد وسائل الحرب، ونبه لا تباع النظم التي تخفف وطأة الحرب، وتقرب من النصر.
فالظفر في الحرب بعيد من الجبناء، وبعيد ممن لا يعدون للحرب عدتها، وبعيد ممن يهملون النظم التي يمليها العلم، أو يستمدها القواد الأذكياء من الوقائع نفسها.
أما عناية القرآن الكريم بخصلة البطولة والإقدام، فقد أقبل على النفوس، وأخذ ينقيها من رذيلة الجبن والإحجام، ويذكرها بسوء عاقبة الجبناء؛ كقوله تعالى:
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8].
فقد أشارت هذه الآية إلى أن عاقبة الجبناء الابتلاءُ بذي قوة لا يعرف للعهد حرمة، ولا يقيم للعدل وزناً، ومن الذي يرتاب في أن الموت في مواطن البطولة أشرف من حياة يغمرها الذل والهوان؟ قال المتنبي:
غير أن الفتى يلاقي المنايا
…
كالحاتٍ ولايلاقى الهوانا
وإذا لم يكن من الموت بد
…
فمن العجز أن تموت جبانا
ومن الآيات المنبهة على أن الجبناء قد فقدوا جانباً من رجولتهم: قوله تعالى في توبيخ قوم تأخروا عن المحاربين في سبيل الإصلاح، وقعدوا بين من لم يخلقن للطعن والضرب:
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 87].
ولا يتوارى الرجل عن أعين القوم، أو يسل يده من أيديهم في حرب لهم فيها أمن أو سيادة إلا أن يكون حظه من الرجولة ضئيلاً أو مفقوداً.
ومما اتخذه القرآن وسيلة لتربية الشجاعة في النفوس: عقيدة القضاء والقدر، فقال تعالى في الرد على قوم يظنون أن من لا يخرجون إلى القتال تمتد آجالهم:
وقال تعالى:
{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168].
فالإنسان مطالب بالحذر من مواقع الخطر والتهلكة، ولكن الإقدام في الدفاع عن العزة والكرامة لا يعد من قبيل الإلقاء بالنفس في تهلكة، وإنما هو قيام بواجب، فإن قضاه وعاد سالماً، فقد استحق الحمد، وعرف أن أجله لم يجئ بعد، وإن أصيب فقتل، فإنما هو أجله المقدور الذي لا يتأخر ساعة ولا يتقدم قد أدركه في أشرف حالة، هي المسابقة إلى دفع أيدٍ عادية عن نفوس بريئة، أو أعراض مصونة، وأموال محترمة.
وأما عناية القرآن بإعداد وسائل الدفاع، فحسبنا شاهداً عليها: قوله تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي؛ نظراً إلى أن الرمي أهم وسائل الدفاع، وأقواها أثراً في الانتصار، وما زلنا نرى معظم أسباب الفوز في الحروب عائداً إلى الرمي، فالمدافع والطائرات والغواصات إنما تفعل ما تفعل بقوة الرمي.
ونبه القرآن الكريم في آية أخرى على أن قاصد الحرب شأنه أن يأخذ الأهبة للحرب قبل النهوض إليها، فقال تعالى في وصف قوم من المنافقين أضمروا عدم الخروج إلى الحرب من أول الأمن ثم استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف:
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46].
وأما عناية القرآن باتباع ما تقتضيه النظم الصالحة، فمن الآيات المشيرة إليه: قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
ومن مقتضى هذه الآية: أن الشجاعة، واستيفاء وسائل الدفاع المادية لا يغنيان عن الأخذ بالنظم التي هي أثر التجارب والبصائر النافذة.
وفي كتب السنة والغزوات النبوية أحاديث كثيرة ترشد إلى أن من أهم وسائل الفوز: اتباع النظم التي تستدعيها مصلحة القتال.
يبث القرآن الكريم في النفوس روحاً عسكرية قوية صادقة، فلا جرم أن يكون المؤمن بحق قوي الجأش، محافظاً على نظم الدفاع، آخذاً بوسائله ما استطاع، وكذلك كان الناس في عهد الأمراء المظفرين.
ومن أسباب قوة الروح العسكرية فيما سلف: أن رؤساء الجند يقدرون عمل الجندي، ويعرفون أثره الخطير في سلامة الوطن، ورفعة شأن الأمة، فلا يكون منهم إلا أن يرعوا الجنود برفق، ويذيقوهم حلاوة التمتع بالكرامة في دائرة الحزم، ويرفعوا درجاتهم على قدر كفاياتهم لجلائل الأعمال وملاقاة الأخطار.
كانت الروح العسكرية مظهراً من مظاهر التقوى، ومعدودة في الخصال التي يرتفع بها أفاضل القوم درجات، وكان العلماء يحرصون على أن يكون لهم منها أوفر نصيب، وإذا رجعنا إلى تاريخ العلماء الأجلاء، وجدنا كثيراً منهم كانوا يسابقون في ميادين الحروب، وكان كثير من القضاة يقودون الجيوش؛ مثل: أسد بن الفرات قاضي القيروان وفاتح صقلية، ويحيى بن أكثم قاضي بغداد، ومنذر بن سعيد البلوطي قاضي قرطبة، ونجد في تراجم كثير من العلماء أنهم توفوا في غزوات، أو مرابطين في الثغور. وكان تقدير العلماء للروح العسكرية واتصالهم بها من أسباب قوة هذه الروح وسريانها في الأمة قاطبة.
وإذا بدا لنا أن نبحث عن أسباب ضعف هذا الروح بعد تلك القوة، تراءت لنا أسباب شتى، منها: أن التعليم الديني اتجه إلى النظر أكثر من اتجاهه إلى العمل، كأن إدراك أصول الدين وأحكامه هو الغاية الأخيرة من تعلمه، ومنها: انحدار الناس في الشهوات، والتنافس في الزينة والملاذ الجسمية؛ من نحو: الإسراف في الملابس والمطاعم، وقضاء الوقت في لهو ونوم.
قال الوزير حسن بن عبده يخاطب المستظهر أحد أمراء الأندلس:
أخوض إلى أعدائكم لجج الوغى
…
وأسري إليهم حيث لا أحد يسري
وقد نام عنهم كل مستبطن الحشا
…
أكول إلى الممسى نؤوم إلى الظهر
ومما يصح أن يذكر في أسباب ضعف الروح العسكرية بعد تلك القوة: ما عرض لبعض الناس من الخطأ في فهم التوكل والزهد.
أما التوكل، فجروا فيه على معنى: ترك تعاطي الأسباب، ولابس أذهانهم: أن التوكل لهذا المعنى قد يغني عن الأخذ بوسائل الدفاع، ونسي هؤلاء أن التوكل الصحيح في تعاطي الأسباب، واستمداد الحول والقوة من الله.
وأما الزهد، فجروا فيه على معنى: إيثار العزلة والانقطاع عن المجتمع، ونفض الأيدي من كل أمر ما عدا العبادات؛ من نحو: الصلاة، والصيام، فانصرفوا عن كل ما تخيلوه أمراً دنيوياً، وكان من جملة ما تخيلوه أمراً دنيوياً: إعداد وسائل الدفاع، والنهوض إلى الدفاع، وبهذا فقد الزهد المشروعُ ركناً من أركانه الذي هو مكافحة الباطل، وحماية الحقوق العامة والخاصة حسب الطاقة.
وكثيراً ما تظهر الروح العسكرية في آداب أهل العصر، فمن البعيد أن تسمع من جبان يعيش في بيئة مقهورة أمثال قول الشاعر:
حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم
…
ولَوَوا عمائمهم على الأقمار
إن خَوَّفوك لقيت كل كريهة
…
أو أَمَّنوك حللت دار قرار
وإنما تظهر الصورة الرائعة من معاني الحرب والحماسة في عهد أو موطن يُعنى فيه القوم بملاقاة الحروب، أو التأهب لها.
وأنشأ عبد الرحيم بن نباتة خطباً طافحة بمعاني الدفاع والتشويق إليه،
فأبدع فيها ما شاء، حتى قالوا: إنه لم يؤلف في هذا الغرض مثلها، وإنما اتجه ابن نباتة هذا الاتجاه، وبرع هذه البراعة؛ لأنه كان يعيش بحلب في عهد سيف الدولة، وكان سيف الدولة كثير الغزوات، وذلك العهد أملى على المتنبي كثيراً من المعاني المتعلقة بالحرب والشجاعة، وبمثل ذلك ارتقى شعره، وازدهى بكثير من الحكم السامية، كما قال:
عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ
…
بين طعن القنا وخفق البنود
وقال:
وقفت وما في الموت شك لواقفٍ
…
كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
…
ووجهك وَضَّاح وثغرك باسمُ
تتبعت بيئاتُ الخلاعة والانحدارِ في اللذات الشعرَ الذي يبعد النفوس عن الرجولة، ويذهب بها في الانحلال حتى لا تكاد تتماسك، ولكن بيئات الشجاعة والحروب هي التي تصدر من الشعر ما كان جزل المعنى، آخذاً بالنفوس إلى الشهامة، والطموح إلى العزة، تجد هذه الروح حتى في الشعر الذي ينحو فيه قائله نحواً من الغزل؛ كما قال أبو العطاء السندي:
ذكرتك والخطيُّ يخطر بيننا
…
وقد نهلت منا المثقفة السُّمْر
وصفوة هذا الحديث: أننا اليوم في نهضة اجتماعية، والنهضات الاجتماعية لا تقوم إلا على نفوس قوية، ولا قوة إلا بالشجاعة، واقتحام الشدائد، وعدم المبالاة بالأخطار، وذلك ما ندعو إلى أن يكون الروح المالئة لصدور شبابنا وكهولنا وشيوخنا، وقد عرفتم كيف كانت هذه الروح عنوان الشرف، ومرقاة السلامة والعزة، وقد قدر أهل العلم هذه الحكمة قدرها، وراعوها في كثير من الأحكام المستنبطة بالاجتهاد، وكانت فتاواهم في كل شأن يتصل بأمر الدفاع أساس الحياة الصحيحة، وأنه مصلحة يسقط بجانبها كل ما يجحف بها من مصالح الأشخاص والجماعات.