الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليد العليا خير من اليد السفلى
(1)
في الناس غني وفقير، وسعادة الأمم في حياتها الاجتماعية على قدر ما تتوفق له من مطاردة الفقر، وتخفيف ويلاته، والفقراء منهم العاجز عن الكسب، ومنهم القادر عليه، فلنتحدث عن فقر القادرين، ووجه معالجته، ثم نتحدث عن فقر العاجزين ووجه معالجته، فإذا نحن عالجنا الفقر من ناحيتيه، تهيأ لنا أن نسابق الأمم المصممة إذا عزمت، والصادقة إذا قالت، والمجدَّة إذا نهضت.
سبب فقر القادر على الكسب سقوط همته وفتور عزيمته؛ فإن الرجل إنما يترك السعي للرزق حيث تنحط همته، وتزيِّن له التعرض لإحسان الموسرين، ومتى انحطت همته، ألف الراحة، وأنس البطالة، وهان عليه أن يتخذ من استجداء الناس حرفة.
وقد عالج الشارع الحكيم سقوط الهمة، وفتورَ العزيمة في كل ناحية من نواحي الحياة.
دعا إلى ابتغاء العزة، فقال تعالى:
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الخامس عشر.
ودعا إلى الجد في العمل، فقال عليه الصلاة والسلام؛ "اعملوا، فكلٌّ ميسَّر لما خلق له".
ثم ألقى الشارع نظرة خاصة إلى رفع الهمة، وتقوية العزيمة من جهة كسب الرزق، فأمر بالتعفف عن السؤال؛ لما في السؤال من إراقة ماء الوجه، والظهور بمظهر الذلة والمسكنة، وحث على الجد في سبيل القوت؛ لأن العمل يخرج الرجل من بيئة الكسل، ويجعله في غنى عما في أيدي الناس، فيصبح في جسم الأمة عضواً سليماً، والغني بعمله يمكنه أن يقف بجانب من شاء موقف النظير للنظير.
عني الإسلام بترغيب النفوس في العمل، وتنفيرها من الطمع، فقبَّح السؤال، وفضَّل عليه بعض الأعمال التي يزدريها الناس، فقال عليه السلام:"والذي نفسي بيده! لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله، أعطاه أو منعه".
وأنذر الذين اعتادوا التكفف سوء العاقبة، ولقاء الخزي يوم البعث، فقال عليه الصلاة والسلام:"مازال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم"، وتجرد الوجه من اللحم كناية عن الهوان، والمعنى: أنه يجيء يوم القيامة ولا قيمة له، ولا جاه.
ونبه لرفعة منزلة المحسنين، وانحطاط منزلة المتلقين للإحسان؛ ليرغب في الإحسان إلى العاجزين، وينفر القادرين على الكسب من البطالة، والتعويل على ما يجود به المحسنون.
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذكر فيها الصدقة، والتعفف عن المسألة، وقال وهو على المنبر: "اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي
المنفقة، والسفلى هي السائلة".
ولكون السعي في تحصيل الرزق يحفظ على الرجل دينه وعرضه، ويجعل حياته في طمأنينة وانتظام، تضافر الحكماء في مواعظهم وأشعارهم على الترغيب فيه، والتنفير من البطالة التي هي مدرجة الاحتياج، ثم الاستجداء.
مر عمر بن الخطاب على زيد بن مسلمة وهو يغرس في أرضه، فقال له عمر: أصبت، استغن عن الناس، يكن أصون لدينك، وأكرم لك عليهم.
وحث علي بن أبي طالب على التجارة، وقال: إنها ثلث الإمارة.
وفضل عمر بن الخطاب الكسب بحرفة فيها شيء من الدناءة على السؤال، فقال: مكسبة فيها بعض الدناءة خيرٌ من مسألة الناس.
وفضل مالك بن أنس كسبَ الرجل من طريق فيه شبهة على الاحتياج إلى ما في يد غيره، فقال: طلب الرزق في شبهة أحسنُ من الحاجة إلى الناس.
البطالة تلبس الرجل ثوب حقارة، والعمل يكسوه كرامة.
كان عمر بن الخطاب إذا رأى فتى، فأعجبه حاله، سأل عنه: هل له حرفة؟ فإن قيل: لا، سقط في عينه.
وشريف الهمة: من أنس في نفسه القدرة على كسب الرزق من طريق العمل بيده، فنهض، ولو وجد شخصاً تطوع له بأن ينفق عليه من ماله الخاص.
كان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع الأنصاري، في صدر الهجرة، فعرض سعد على عبد الرحمن أن يناصفه ماله، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في مالك، دلني على السوق، فأتى السوق، وتعاطى التجارة حتى أصبح من أغنياء الصحابة.
ورحل أبو الوليد الباجي من الأندلس في طلب العلم حتى دخل بغداد في حالة بؤس، وكان في إمكانه أن يستدرَّ أيدي المحسنين غيرَ مبال بمواقف الهوان؛ كما يفعل كثير من الفقراء، ولكن الهمة التي دفعته إلى طلب العلم أبت له هذه المهانة، واختار أن يتعاطى عملاً، ولو لم يكن مناسباً لمقامه العلمي، فأجر نفسه لحراسة درب بغداد في الليل؛ ليستعين بأجرته على طلب العلم بالنهار.
وأراد عمر بن الخطاب لأهل العلم عزة وكرامة، فوعظهم بأن تكون لهم أعمال تغنيهم عن انتظار ما تجود به عليهم أيدي الأفراد والجماعات، فقال: يا معشر القراء! ارفعوا رؤوسكم، واستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
…
ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما
تجعل البطالة الرجل كلّاً على الناس، فيتنكرون له، ولو كانوا ذوي قرباه.
إذا المرء لم يكسب معاشاً لنفسه
…
شكا الفقر أو لاقى الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلّاً
…
وأوشكت صلات ذوي القربى له أن تنكَّرا
وإذا ارتبنا في أن البطالة تقطع صلة الرجل بذوي قرباه، فلا نرتاب في أن الرجل إذا أظهر حاجته إلى رفاقه، أخذت الصلة بينه وبينهم لوناً آخر، وربما نفضوا أيديهم من رفقته، قال أبو العتاهية:
أنت ما استغنيت عن
…
صاحبك الدهر أخوه
فإذا احتجت إليه
…
ساعةً مَجَّكَ فوه
وكان يحيى السرقسطي من أدباء الأندلس جزَّاراً، ثم اشتغل بالأدب، وترك الجِزارة، وعاد بعدُ إلى الجزارة، فأمر الوزير ابن هود أبا الفضل أن يكتب إليه يوبخه على ذلك، فكتب إليه:
تركت الشعر من عدم الإصابة
…
وملت إلى التجارة والقصابة
فأجابه السرقسطي بأبيات، ومما قال خطاباً للوزير:
وحقِّك ما تركت الشعر حتى
…
رأيت البخل قد أوصى صِحابه
وحتى زرت مشتاقاً خليلاً
…
فأبدى لي التحيل والكآبه
وظن زيارتي لطِلاب شيء
…
فنافرني وغَلَّظ لي حِجابه
وإذا كان الشاعر الذي يزين المجلس بلطائف آدابه؛ كالسرقسطي، يلاقي من إخوانه متى رأوه في بطالة مللاً وإغضاء، فكيف يكون حال من لم يكن له في الأدب غدوة ولا روحة؟!.
وإذا قيل: إن في السؤال مهانة، فإنما هو في طلب الشخص مالاً ينفقه في حاجته الخاصة، أما من يسأل الناس شيئاً من المال لينفقه في وجه من وجوه الخير، كإغاثة منكوب أو مسكين أو يتيم، أو إقامة مسجد، أو بناء حصن أو مستشفى، فإنه إنما يعمل صالحاً، ويدعو إلى معروف، وله في رسول الله أسوة حسنة؛ إذ صلى في يوم عيد، ثم جاء إلى النساء ومعه بلال ناشراً ثوبه، فوعظهن، وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي قرطها. يخلد بعض الشبان وغير الشبان إلى البطالة على أمنية أن يتزوج بامرأة ذات ثروة، والمروءة تأبى للرجل -متى كان منفوض الكيس، أو قليل ما فيه- أن يجعل همَّه البحث عن امرأة موسرة؛ ليعيش بما تجود به عليه من مالها، ومن يرضى لنفسه هذا، فقد رضي أن تكون يده السفلى، ويد زوجته هي العليا.
في الموسرات مهذبات يتزوجن بمن يكافئهن في يسارهن، ويستطيع أن ينفق عليهن بالمعروف، فيصلح لهن، ويصلحن له، أما الفقير الذي لا يجد ما ينفقه ليتزوج بذات عمارات أو مزارع، فالشأن أن لا تكون صلة المعاشرة بينهما في صفاء، إلا أن يتنازل عن جانب كبير من إرادته أو رجولته.
والتوكل على الله خصلةٌ من خصال التقوى، وهو اعتماد القلب على الله وحده مع تعاطي الأسباب، وانظروا كيف أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوكل عند العزم على القتال، فقال تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].
ومن قبض يده عن تعاطي أسباب المعيشة بدعوى أنه من أصحاب التوكل، فقد ذهب في فهم التوكل مذهباً غير المذهب الذي جعله الله من خصال الإيمان وتقوى القلوب.
روي أن عمر بن الخطاب لقي ناساً من اليمين، فقال: ما أنتم؟ قالوا: متوكلون، فقال: ما أنتم متوكلون، إنما المتوكل: رجل ألقى حَبَّة في الأرض، وتوكل على الله.
والزهد أثر من آثار طهارة النفس؛ إذ هو نقاء النفس من حب المال، ونعيمِ الحياة حباً يدفع صاحبه إلى كسب المال، ولو من طرق غير مشروعة، ومن أعرض عن تعاطي أسباب الرزق بزعم أنه ارتقى إلى مقامات الزاهدين، فقد خادعته نفسه، أو سولت له أن يخادع غيره، وإنما الزهد: التعففُ عما في أيدي الناس، والتماسُ الرزق من طريق الحلال، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في الزهد، وما من أحد منهم إلا كان له عمل يرتزق منه.
نعظ الفقير القادر على الكسب، وننكر عليه إخلاده إلى البطالة، وليس معنى هذا أن يصرف النظر عنه، ويحرم من الإعانة في كل حال، بل له حق في أن يعجل له بإسعاف وقتي؛ كأن يسعى له في عمل يستدر به قوته، أو يقرضه من يثق بذمته، أو يمنحه من يهمه أمره مالاً على أن يستعمله في نحو تجارة أو صناعة، ويتخلص به من معرة البطالة.
أما الفقير العاجز عن الكسب، فمعالجة حالته من ناحية الفقير نفسه أولاً، ومن ناحية ذوي الإحسان ثانياً.
معالجتها من ناحية الفقير: باحتفاظه على آداب هي: أن يقنع بما يصله من المحسنين متى سد حاجته، ولا يتطوح به الطمع إلى أن يجعل من احتياجه مورداً لرزق واسع، ومن هذه الآداب: أن يتورع بالصبر ما استطاع، ولا يبادر إلى السؤال يلوكه بين يدي كل من يلاقيه.
قال عليه الصلاة والسلام: "ليس المسكين هذا الطواف الذي يطوف على الناس، فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان"، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن الناس له، فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس".
وقال تعالى في فقراء متعففين:
{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273].
إن الكريم ليخفي عنك عسرته
…
حتى تراه غنياً وهو مجهود
ومن المحتاجين من يسلكون في إظهار احتياجهم طريقة التعريض؛ لأنه أبقى لماء الحياء في وجوههم، وربما كان التعريض أدعى لعاطفة
السخاء من التصريح والإلحاح.
وقفت إمرأة على باب قيس بن سعيد، وقالت له: أشكو إليك قلة الفأر في بيتي، فقال: ما أحسنَ ما وَرَّت عن حاجتها، املؤوا بيتها خبزاً وسمناً ولحماً.
وأما معالجة حالة الفقير العاجز عن الكسب من ناحية الموسرين، فباحتفاظ هؤلاء بآداب هي التي تجعل أيديهم العليا خيراً من الأيدي التي تناولت منهم العطاء.
ومن هذه الآداب: أن يبادروا إلى إغاثة الفقير ساعة يشعرون بحاجته، ولا يدعونه إلى أن يتجرع غصة السؤال بتصريح أو تعريض.
زار رجل من أشراف أهل المدينة عمرو بن سعيد بن العاص، فإذا كمُّ قميص هذا الرجل قد ظهر من تحت جبته وبه خروق، فلما انصرف، أرسل إليه عمرو بن سعيد بضعة آلاف من الدراهم، وعشرات من الثياب، فأثنى الرجل على عمرو بأبيات يقول فيها:
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
…
فكانت قذى عينيه حتى تجلَّتِ
والمحسن بحق يجتهد في أن يواصل المحتاجين وهو يخفي نفسه؛ حتى لا يعلموا من أين جاءتهم الصلة. "كان أناس من المدينة يعيشون، ولا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه، فقدوا ما كانوا يؤتون به من الليل، فعلموا أنه هو الذي كان يواصلهم بذلك الإحسان".
والمحسن بحق يبذل المعونة للفقير، وينسى أو يتناسى ما بذل، حتى لا يجري على لسانه وتعلمه نفس غير نفسه، وإلى هذا الأدب السامي يشير
قوله صلى الله عليه وسلم وهو بعد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل تصدق بصدقه، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
أفرِّق بين معروفي ومَنِّي
…
وأجمع بين مالي والحقوق
سادتي!
رأينا كيف كانت البطالة جالبة للفقر، والفقر يلقي بالأفراد في هموم ومهانة، وإذا انتشر الفقر في أمة، ضاعت آمالها، وازدرتها أعين خصومها، فلو تعاون دعاة الإصلاح وأولو الأمر على مكافحة البطالة، وتعاونوا على غرس الهمم الشريفة في النفوس؛ حتى يقبل المستطيعون على العمل لأنفسهم، وتعاونوا على تربية عواطف الإحسان في القلوب؛ حتى يتسابق الموسرون إلى الإنفاق في إعانة العاجزين، وإغاثة الملهوفين، لو قام دعاة الإصلاح وأولو الأمر بهذا السعي المحمود خير قيام، لكثرت نهينا الأيدي العليا، وقلت الأيدي السفلى، واستقر الأمن على الأساس من الخلق العظيم، فإذا نحن في مقدمة الأمم قوةً وعزماً، وجمال مظهر، ونقاء سيرة. والسلام عليكم ورحمة الله.