الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنصور إلى تونس، وولاه قضاءها، واستمر قاضياً بها إلى أن توفي سنة ست وثمانين وخمس مئة، وكذلك كانت البلاد الإِسلامية ولا تزال في نظر الذين أوتوا الحكمة وطناً واحداً.
*
فاتحة السنة الثانية
(1):
أيها السادة! تشعر الأمة بعلل ضعفها، فتلجأ إلى الدواء الناجع، ودواءُ ضعف الأمم: التربية النقية، والعلم الموزون، وإذا ظفرت الأمة من التربية المهذبة بأمنيتها، وملأت من العلم النافع يدها، تقاربت عقولها، وتشابهت قلوبها، وإذا تقاربت الآراء، وتشابهت الهمم، فما هو إلا الوفاق والاتحاد، وبرابطة الاتحاد تبلغ الأمة أشدها، وتملك وسائل نجاتها، والأمة القوية باتحادها، المالكة لوسائل نجاتها، تتراءى لها الغاية الشريفة، فلا تتمالك أن تسعى لها سعيها، ولا ترضى إلا أن تقف عندها:
شعورٌ فعلمٌ فاتحادٌ فقوةٌ
…
فعزمٌ فإقدامٌ فإحرازُ آمالِ
بمثل ذلك كانت الأمة الإِسلامية في عزة ضافية، وسلطان مكين، أدركت الأمة ذلك المقام المحمود يوم أخرج الإِسلام رجالاً استنارت عقولهم، وخلصت ضمائرهم، فأفاضوا على العالم حكمة ورشداً وإصلاحاً، ويوم كانت معاهدنا العلمية طافحة برجال لا يرضون من العلم إلا باللباب، ولا من المعالي إلا بالسنام، ولا يهابون الرئيس إلا أن يكون تقياً.
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثاني. احتفلت جمعية الهداية الإِسلامية بمناسبة مرور سنة على صدور مجلتها في مساء يوم الجمعة 29 جمادى الأول سنة 1348 الموافق أول نوفمبر "تشرين الثاني" 1929، وألقى الإِمام هذه الكلمة.
أعقمت المعاهد إلا نزراً، ونضب معين العلم إلا ثمداً، أخلدت النفوس إلى الأهواء، تفرقت الأمة أيدي سبا، تداعى بناء تلك العزة، تقلص ظل ذلك السلطان، وإذا العاقبة ما ترون بأعينكم، أو تسمعون بآذانكم.
لا أريد أن أتناول في هذا المقام ما يمس جماعتنا من مرض في الأخلاق، ولا ما تقاسيه بعض الشعوب من عسف وإرهاق، وشأني في هذا المقام أن ألفت أنظاركم إلى نزعة لو خلي سبيلها، وألقي حبلها على غاريها، لمزقت الأمة شر ممزق، ولبسطت بها في خسر دائم وشقاء بعيد.
ثلة من المخالفين، وثلة ممن نشؤوا في بيوت المسلمين، تشابهت قلوبهم، وتواطأت آراؤهم على أن يقعدوا للحق في كل مرصد، ويطعنوه في كل مقتل، يعملون على هذا القصد في بعض الصحف، في بعض المؤلفات، في نوادي بعض الجمعيات، بل أخذ الزيغ بمجامع قلوبهم، فلم يبالوا أن يقذفوه في نفوس طلاب العلم، وقد جلسوا إليهم في فطر صافية، وأذهان خالية.
ومما نقضي له أشد الأسف: أن يتخذوا في بعض المعاهد الإِسلامية أصابع يومئون بها إلى ما ابتغوا من إباحة منكر، أو استبدال جحود بإيمان.
تخيل القائمون بهذه الدعاية الزائفة أن أولياء الحق في موتة فلا ينتبهون، أو أنهم في رهبة من رؤوس الضلال فلا يكافحون، فهاجموا الدين الحنيف من نواحي شتى، وأوشكت سهامهم -لولا وقاية الله- أن تنفذ في قلوب النشء، فيرتدوا على أعقابهم خاسرين.
من مظاهر هذه الوقاية: أن كان في نشئنا فطر سليمة تدرك شر ما يوسوس به أولئك المنحرفون عن السبيل، وإن خرجوا في زي المرشد رياء، أو صاغوا دعايتهم زخرف القول غروراً. وقد رأينا بعض المتخرجين في المدارس التي
لا يعني فيها بدرس شيء من علوم الدين، يقفون أمام من يحاول إغواءهم موقف المزدري بأقوالهم، الضارب بها في وجوههم، وما هي إلا الألمعية المهذبة، أو ما يتلقى في البيت من تربية ناصحة، وأدب حكيم.
وإذا نحن بحثنا عن نشأة هذه الجمعيات التي نهضت لتحول بين دعاة الجحود والإباحية وما يشتهون، نجد أكثر الداعين إلى تأسيسها، والقائمين بعبء ثقيل من أعمالها، هم الشبان الذين سمعوا أو قرؤوا ما يقوله أولئك المجرمون، فعرفوا أن أشرف جهاد في هذه الحياة العمل على إنقاذ الأمة من بلاء يثيره حولها قوم لا يهتدون.
توفق فريق من الشيوخ والشبان إلى أن يدافعوا هؤلاء المنكرين بمثل سلاحهم الذين يحاربون، فألفوا الجمعيات كما ألفوا، وفتحوا النوادي كما فتحوا، وأنشؤوا الصحف كما أنشؤوا، وقد أخذوا من هذه الوسائل بما استطاعوا، فوجدوا لها في إزاحة الشر ودفع الخطر أثراً مشهوداً.
وهذه جمعية الهداية الإِسلامية أنشئت، وليس لديها من وسائل الجهاد إلا الثقة بأن الله مع الذين يصلحون ولا يفسدون.
افتتحت الجمعية أعمالها بمحاضرات تلقى لإرشاد الجمهور في مساجد القاهرة وغيرها من القرى، ومحاضرات تلقى عن طريقة البحث العلمي في بعض النوادي الأدبية.
وأخذ مجلس الإدارة مع هذا يسعى لإنشاء مجلة تعمل لتحقيق مبادئ الجمعية.
ظهرت المجلة، ولم نستطع بالنظر إلى مقدار ما تيسر من الوسائل المادية أن نصدرها في مظهر أكبر مما صدرت، وأقدمنا على إظهارها حسب الميسور؛
رجاء أن تكون من المشروعات التي تبدو صغيرة، ثم لا تزال تنمو حتى يتسع نطاقها، ويعظم في الناس أثرها.
سارت المجلة في خطبتها المرسومة على نظر وبصيرة، فنالت في البلاد الإِسلامية حظوة، ولقيها أهل العلم في كل قطر بأحسن قبول.
خطة المجلة: تتناول الخطة المرسومة للمجلة نواحي متعددة: قد تمكنا في السنّة الماضية من التحرير في بعضها، وسنمضي -بتأييد الله تعالى- في هذه الخطة، ونأتي على كل ناحية منها كما مست الحاجة إلى شيء من موضوعاتها.
تبحث المجلة في حقائق الإِسلام، وفي كل إصلاح تتناوله أصول الشريعة الغراء، مع اجتناب الآراء المخالفة لما أجمع عليه الأئمة المجتهدون، والابتعاد عن الجمود الذي لا يليق بسماحة الدين الحنيف.
تبحث عن حكمة التشريع الإِسلامي؛ لتري قراءها أن الإِسلام يرفع أولياءه بحق إلى أرقى ما يرام من السعادة في الحياة الأولى قبل الآخرة.
تتصدى لدفع ما يلقى حول الدين من شبه، أو يوجه إليه من مطاعن، وتكشف اللثام عن الضلالة التي تجيء باسم التجديد مرة، واسم حرية الفكر مرة أخرى.
تبحث عما يفعله الناس على أنه من الدين، وما هو من الدين في شيء، تتعرض لتراجم عظماء الرجال، ولا سيما من كان لهم في حياة المسلمين العلمية أو السياسية أو الاجتماعية أثر جليل.
تبحث في الأخلاق والعادات من حيث حسنها، فتحث على التمسك بها، أو من حيث قبحها، فتنصح بتحاميها والإقلاع عنها.