الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إصلاح المعاهد الدينية والدكتور طه حسين
(1)
كتب الدكتور طه حسين في مجلة "الرابطة الشرقية" مقالاً تحت عنوان: "إصلاح الأزهر"، وقارئ المقال -ذكياً كان أو غير ذكي- لا يفهم منه إلا أن الكاتب يريد إلغاء المعاهد الدينية، لا إصلاحها، ويود إماتتها، لا إحياءها.
إصلاح الأزهر فيما يبديه ذلك الكاتب أن يصير مدرسة وعظ وإرشاد، وأن لا يكون للمتخرجين فيه حق في مناصب الحكم، والتصرف في شؤون الدولة، وابتدع -بعد هذا- لطلاب العلم بالمعاهد الدينية رهبانية، فأشار عليهم بأن يدعوا الدنيا وأعراضها، وأخذ يضرب لهم المثل من القسس "رؤساء الديانة النصرانية".
يقول الكاتب: "الغرض من الأزهر إنما هو إرشاد المسلمين إلى الخير، وتفقههم في الإِسلام، ودعوة غير المسلمين إلى الدين، وإقامة حجته عليهم ظاهرة بالرفق والحكمة والموعظة الحسنة. فأما تولي مناصب الحكم، والتصرف في شؤون الدولة، والتمكن من الكسب، فأشياء إضافية ليس من المحتوم أن يسعى إليها مصلحو الأزهر".
ويقول: "وإنما نريد: أن الله يفرض عليهم تحقيق غرضين دينيين، والله
(1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الأول.
أرفق بهم وأعطف عليهم من أن يضارهم في تحقيق هذين الغرضين، ولكن الله لا يفرض عليهم أن يكونوا قضاة، ولا أن يكونوا أساتذة للغة العربية، ولا أن يتولوا من مناصب الدولة ما يطمحون إلى التسلط عليه".
ويقول: "وليكن الأزهر مدرسة دين قبل كل شيء وبعد كل شيء".
ويقول: "وهنا نصل إلى نقطة لا نشك أن كثيرين من أنصار الإصلاح الأزهري -وربما كان منهم الأستاذ المراغي نفسه- يخالفوننا فيها أشد الخلاف. فهم يريدون أن يؤاسوا بين الأزهريين وغيرهم من طلاب المدارس المدنية من حقوق التمتع بمناصب الحكم، والتصرف في شؤون الدولة".
ويقول: "فخليق بالذين يسعون إلى إصلاح الأزهر أن يعرفوا لقانون توزيع الأعمال حرمة، فيتركوا القضاء للقضاة، والتعليم للمعلمين، ويكتفوا بما قسم الله لهم، وما فرض الله عليهم من الوعظ والإرشاد والدعوة الدينية".
قال هذا، ثم حمد الله على أن الشعوب الإِسلامية لا زالت تقدس دينها، وتحرص عليه، وتتوق إلى رفع شأنه، وإعلاء كلمته في الأرض!!.
وبعد أن ذهب إلى أن المتخرج في المعاهد الدينية لا يسمح له بعمل غير الوعظ والإرشاد والدعوة الدينية، وضع للتعليم بها منهجاً، وانقلب بعد وضع هذا المنهج صوفياً في مرقعة وبيده سبحة، فقال يعظ الأزهر، وهو يعني أهله: وليدع الدنيا للذين تعنيهم أعراض هذه الحياة الدنيا، فقد صدق الله حين قال:
فليدع الأزهر هذا الهشيم الذي تذروه الرياح، وليدع الأزهر هذا الزبد
الذي يذهب جفاء، وليعنَ الأزهر أشد العناية بما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وهو: تفقيه المسلمين في دين الله، ودعوة غير المسلمين إلى دين الله.
هكذا يكتب الدكتور طه حسين في إصلاح المعاهد الدينية، ولولا الحذر من أن يكون لمثل هذا المقال أثر في بعض النفوس الغافلة، لضربنا عنه صفحًا، وتركناه يذهب كما يذهب الزبد جفاء، أو كما يذهب الهشيم الذي تذروه الرياح.
الغاية من هذا المقال ماثلة أمام قرائه، وهو مصنوع على شكلة ما يكتبونه حين يقصدون إلى إيهام السذج أن الإِسلام دين لا صلة له بالقضاء، ولا بشؤون الدولة، ولطالما كتب أهل العلم في تقويمهم، وأروهم أن في الإِسلام أصولاً قضائية، ونظماً اجتماعية، فأصروا واستكبروا استكباراً.
لنترك حوارهم في هذا الشأن؛ فإن المسلمين بحق يقرؤون كتاب الله، أو يستمعون إلى من يقرؤوه، فيشهدون أن الإِسلام أتى بأصول تسلك في شؤون الجماعة، وتتغلغل في أحشاء الدولة، وأنه أسمى من أن يرضى لعلمائه البعد عن مناصب الحكم، والنظر في إدارة شؤون الأمة.
الغرض من المعاهد الدينية: درس العلوم الإِسلامية، والعلوم العربية، وما يتصل بها من نحو: المنطق والفلسفة والتاريخ، ثم ما تدعو إليه الحاجة من العلوم والفنون الأخرى بمقدار، وإذا سارت دراسة هذه العلوم على طريقة منتظمة، وأسلوب موزون، كان في وسع هذه المعاهد أن تخرج لنا رجالاً للقضاء، وأساتذة للغة العربية وآدابها، وكان في وسعها أن تخرج لنا رجالاً يقومون بجانب من إدارة شؤون الأمة، كما يكون في وسعها أن تخرج للناس
مرشدين إلى الآداب الفاضلة، ودعاة إلى الدين الحنيف.
وإذا كانت علوم اللغة العربية وآدابها تدرس في هذه المعاهد بإتقان، وكانت علوم الفلسفة والمنطق والتربية والتاريخ تدرس ببسط، وعلى أسلوب قويم، فما الذي يمنع المتخرجين في هذه المعاهد من أن يكونوا أساتذة لهذه العلوم في مدارس الحكومة؟.
وإذا كانت أصول الشريعة وأحكامها تدرس على مناهج تمكن الإخصائي فيها من أن يفصل في القضايا على سنة العدل والمساواة، فما الذي يمنعهم من أن يتقلدوا منصب القضاء، ويجلسوا للحكم بين الناس؟ وإذا بنى الكاتب مقاله على فرض إلغاء المحاكم الشرعية من القطر المصري، فقد بنى خيالاً على خيال؛ إذ لا يقدم على هذا العمل إلا الجاهل بنفسيات الشعوب يوم تشعر بحقوقها، وتطمح إلى أن تتمتع بحريتها، ولا حرية للشعوب الإِسلامية إلا أن تساس بأحكام شريعتها.
نفهم جيدًا كيف لا يكون المتخرج في المعاهد الدينية مهندساً أو طبيباً، ونفهم جيداً كيف لا يكون المتخرج في المعاهد الدينية إذا لم يكن ملماً بلغة أجنبية وزيراً أو سفيراً، ولكنا لا نستطيع أن نفهم كيف لا يكون قاضياً في المحاكم، ولا نفهم كيف لا يكون أستاذاً للغة العربية في مدارس الحكومة، ولا نفهم كيف لا يطمع إلى التسلط على جانب من منصب الدولة.
ألا إن الحكومة الرشيدة هي التي تدخل في مدارسها ومحاكمها ودوائرها من الطائفة التي أشربت روح الدين الخالص فريقاً يكونون وقاية لها من أن يسري فيها وباء الإباحية والزيغ فيهلكها، وما فشت الإباحية والزيغ في أمة إلا ذهبت قوتها المعنوية، وإذا لم يكن لها مع هذا قوة مادية كافية، فبطن
الأرض خير لها من ظهرها.
تلك الحكومة التونسية -وهي تحت نفوذ دولة غير إسلامية- قد أدركت كفاية المتخرجين في المعهد الزيتوني للقيام بالقضاء، وإدارة شؤون الدولة، فلم تستطع أن تحرمهم من مناصب القضاء، والعمل بدوائر الحكومة، فتجد المتخرج في المعهد الزيتوني أستاذاً في مدارس الحكومة، وقاضياً بالمحاكم الأهلية، بلهَ المحاكم الشرعية، وتجده في دوائر الأوقاف والمالية والحقانية، بل تجد للزيتونيين مكاتب في الرياسة العامة، والفرنسيون أنفسهم يشهدون لهؤلاء الزيتونيين بالكفاية والبراعة في تطبيق النظم والقوانين، ولن تبلى مصر -إن شاء الله- برجال دولة يكونون أقسى قلوباً على أبناء المعاهد الدينية من الحكومة الفرنسية.
وإذا شوهد في بعض المتخرجين في هذه المعاهد قصور في التعليم أو الإدارة، فهو بمقدار ما يقع فيه إخوانهم من المتخرجين في المدارس الأخرى، وإذا صح أن يكون هذا القصور ظاهراً فيهم أكثر مما يظهر في غيرهم، فإنما هو أثر التعليم الذي ننادي بإصلاحه وتنظيمه. ومتى صلح التعليم، وتهذبت طرقه، أخرجت هذه المعاهد رجالاً يجمعون إلى طهارة الذمم والاستقامة على الطريقة ثقافة صافية، وعملاً ناصحاً.
وإذا كانت معرفة العلوم الإِسلامية في نظر الكاتب ذنباً أو عيباً يستحق به صاحبه أن ينفى من دوائر الحكومة ومدارسها ومحاكمها، فذلك رأي قد يوافقه عليه قوم لا يشعرون، وآخرون لا يهتدون، أما من لهم السلطان على هذه المعاهد، فلم يزالوا بنعمة الله يشعرون ويهتدون، وأخالهم حين يمرون بمقال هذا الكاتب لا يمرون به إلا كراماً، كما أنه لا يلقى من طلاب
هذه المعاهد إلا ازدراء.
خير للكاتب أن يترك الخوض في إصلاح المعاهد الدينية جانباً، ففي هذه المعاهد اليوم حياة غير ما كان يعهد، وفي هذه المعاهد فتيان وكهول عرفوا قيمة ما يدرسون، فهم لا يبتغون سوى إصلاح مناهج التعليم، وهم لا يرضون إلا أن يقفوا مع إخوانهم المتخرجين في المدارس الأخرى جنباً لجنب، وكذلك حكمة الإِسلام الخالص تنبت في نفوس دارسيها إرادات قوية، وهمماً طماحة إلى المعالي، وتعلمهم أن يكونوا في الصف الأول من صفوف العاملين لإصلاح شأن البلاد، وإعزاز جانب الأمة.
ولقد أبى ذلك الكاتب إلا أن يختم مقاله بشيء من المزح، فدعا طلاب العلم بهذه المعاهد أن يدعوا الدنيا وأعراضها، وتلا الآية الكريمة في غير موضعها. كلا. لا رهبانية في الإِسلام. وآية {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45] إنما يراد بها كبح جماح المفتونين بزينة هذه الحياة، فخطابها لا يختص بالمتخرجين في المعاهد الدينية، بل هم، وأساتذة الجامعة، وسائر المسلمين أمام موعظتها الحسنة على سواء.