الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طلب العلم إذ يقول: "أنت ولدي مادمت والعلم شأنك، والمدرسة مكانك، والقلم أليفك، والدفتر حليفك، فإن قصرت -وما أخالك-، فغيري خالك، والسلام".
أيها الأبناء النجباء! إن في مصر خيراً كثيراً، وفيها شر غير قليل، وأريد من الشر نفوساً تنتمي إلى العلم، ولكنها ضلت السبيل، ولم تتزود من هدى الله كثيراً ولا قليلاً. فشأنها أن تخادع طلاب العلم، وتلقي بهم في ضلالة أو حيرة، فاستضيئوا بكتاب الله، وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، تروا وجه الحق جميلاً مشرقاً، ووجه الباطل قبيحاً مظلماً.
نرجو من الله تعالى أن يشرح صدوركم للعلوم النافعة، ويوفقكم جميعاً للسيرة التي تكسبكم رضا الله ورعايته، والسلام عليكم ورحمة الله.
*
وفاة علامه مجاهد كبير
(1):
فجعت المقامات الدينية والعلمية بوفاة علامة جليل، ومصلح خطير، هو الأستاذ الشيخ محمد شكر، فقد كان رحمه الله عالماً محققاً، ومجاهداً في سبيل الإصلاح مخلصاً.
ولد رحمه الله في مدينة جرجا في شوال 1282، وتلقى العلم بالأزهر الشريف، ثم تولى أمانة الفتوى يوم كان المفتي الشيخ العباسي المهدي، ثم تولى نائب محكمة مديرية القليوبية، وعين بعد قاضياً لقضاة السودان، وهو أول من تولى هذا المنصب، ثم صار شيخاً لعلماء الإسكندرية، وعين بعد وكيلاً لمشيخة الجامع الأزهر، واختير عضواً في الجمعية التشريعية.
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد الحادي عشر.
وعندما قامت الحركة الوطنية حوالي سنة 1337، وجدت من الأستاذ غيرة متقدة، ونظراً حكيماً، وجأشاً قوياً، وقلماً بليغاً، فكان في مقدمة القائدين لهذه الحركة، وامتلأت الصحف بمقالاته، وكان لها في نفوس الشعب أثر عظيم. وكان الأستاذ يجاهد في سبيل القضية الوطنية، وإذا تعرض كاتب لطعن في الدين، أو إنكار لبعض حقائقه، كان الأستاذ أول من يتصدى للرد عليه، لا يبالي الأذى الذي يلحقه من أولئك الكاتبين وأذنابهم، وكانت هذه الناحية من النواحي التي يمثل بها الأستاذ مقام العالم الناصح الأمين، وهكذا كانت مقالاته في الصحف، ما بين مقالات سياسية وطنية، ومقالات دينية علمية.
وكان الأستاذ رحمه الله على خلق حميد، وأدب سني، يرى منه إخوانه وزائروه تواضعاً وحسن لقاء، ومن أجلِّ الخصال التي يحمد عليها: الشجاعة الأدبية، وقلة مسايرة الوجهاء في غير حق، وهي خصلة قد أخذت في التقلص حتى بين أهل العلم، وأصبحت سوقها خاملة، على أن العالم الديني لا يسمو مقامه، ويلاقي ربه طاهر الذمة، إلا أن يعطي هذه الخصلة حقها.
وكنت أود أن لا أتعرض في تأبين عالم ديني لسلامة عقيدته، ولكن بلية الضلال والانحراف عن قصد السبيل قد انتشرت حتى وصلت إلى طائفة ممن يخرجون للناس في زي رجال الدين، فأخشى أن تستشرف نفس القارئ الذي لا يعرف الأستاذ بحق إلى كلمة تنبه لناحية الروح الديني الذي كان يعمر نفس الأستاذ، فأقول: إن الأستاذ رحمه الله كان صحيح العقيدة، قوي الإيمان، صادق اللهجة، ولم يكن من أولئك الذين يقصدون للعبث بالدين الحق، ويذهبون به مذهب التأويل الذي يدل على جهل مرتكبه قبل أن يدل
على ضعف إيمانه وانحلال عقيدته، فكان الفقيد رحمه الله يجمع بين الإيمان الصادق، واستنارة البصيرة في مقتضيات العصر الحاضر. ومن هنا كان النظام الذي وضعه للمعاهد الدينية أيام كان شيخاً لعلماء الإسكندرية أساساً صالحاً لأن يقوم عليه التعليم في المعاهد الدينية.
وجه الأستاذ همته يومئذ لإصلاح نظام التعليم، ووجه همته لغرض آخر لا يقل شرفاً عن الأول، هو الاحتفاظ بكرامة أهل العلم من أساتذة وطلاب، وكان يبذل ما له من جاه في أن لا يلحق أستاذاً أو طالب علم بالمعهد، ما لا يناسب عزة العلم، كما يبذل بما له من سلطان في أن لا ينحرف أحد عن السيرة التي ينبغي أن يكون عليها طالب العلم، وإذ لم يكن للأستاذ رحمه الله غاية يعمل لها إلا إعلاء شأن العلم والعلماء، كان الأساتذة كما كان الطلاب أمام عاطفته الدينية العلمية على السواء.
وقد جئت مصر في آخر سنة 1338، ووجدت ألسنة العلماء لا تزال تلهج بذكر النهضة الإصلاحية الدينية التي قام بها في عهد توليه شيخاً لمعهد الإسكندرية، ووكالة الجامع الأزهر. وكان الأستاذ رحمه الله يشد عزائم طلاب العلم على ما فيه خير للدين والعلم، ولا ننسى أن الطلاب الذين قاموا بإنشاء جمعية الهداية الإسلامية قد وجدوا منه تشجيعاً على المضي في سبيلهم، وها هو ذا قانونها الأساسي المشتمل على أسماء حضرات المؤسسين للجمعية يباهي بذكر اسم هذا الأستاذ العظيم.
وما زال الأستاذ يجاهد في سبيل الدين والعلم وحرية الوطن حتى أصيب بفالج ألزمه الفراش، وكانت وفاته في يوم الخميس الحادي عشر من جمادى الأولى سنة 1358، فإلى مقام كريم، ونعيم مقيم.