الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والكتب عامرة بقصص من بلغوا هذه الرتبة في السخاء. قال أحد شعراء الحماسة:
طويل نجاد السيف يصبح بطنه
…
خميصاً وجاديه على الزاد حامد
وأبلغ ما يدلك على أصالة كرم الرجل: أن يرق عطفه حتى يبسط يد إحسانه إلى ذي الحاجة، وإن كان من أعدائه؛ كما قال أحد شعراء الحماسة في سيرته مع ابن عشيرته:
وأمنحه مالي وودي ونصرتي
…
وإن كان محنيَّ الضلوع على بغضي
*
أثر السخاء في سيادة الأمة:
تبلغ الأمة الأمد الأسمى من السيادة بحفظ دينها، وسعة معارفها، وسمو أخلاقها، وصيانة أعراضها، ونباهة ذكرها، وحياة لغتها، ومتانة اتحادها، وحماية أوطانها، وكل هذه المقاصد رفيعة الشأن إنما تتحقق بالمال الذي يبذله الأسخياء من الناس.
للسخاء أثر في حفظ الدين: فالمساجد التي تقام فيها الصلوات، والمعاهد التي تدرس فيها علوم الدين ووسائلها، والجمعيات التي ترشد بمحاضراتها ومجلاتها إلى حقائق الدين، وتدعو إلى التمسك بعروته الوثقى، والمحاكم التي تقضي بشريعته، كل ذلك معدود من مآثر السخاء.
وللسخاء أثر في تنمية العلوم، وذلك ما تجود به النفوس الكريمة من أموال تصرف في إنشاء مدارس للتعليم، وإرسال بعثات لتلقي العلوم من منابعها الغزيرة، أو طبع كتب قيمة، أو عقد مسابقات لتحقيق بحث علمي أو أدبي.
وللسخاء أثر في نبل الأخلاق وسلامتها، من جهة أنه يحفظ الدين، وينمي العلوم، وبحفظ الدين وبنمو العلوم ترتفع الأخلاق، وتبلغ الذروة من كمالها.
ثم إن السخاء ينقذ أناساً كثيراً من الفقر الذي قد ينجرف بهم إلى فساد الأخلاق وضيعة الآداب.
وللسخاء أثر في صيانة الأعراض، ذلك أن الكريم يبذل المال لذي الحاجة، فيصون ماء وجهه من الابتذال بالسؤال، والسؤال يزري بالرجل، ويجعل عرضه مضغة في الأفواه.
ثم إن الأسخياء يصونون أعراضهم بما يسدون به أفواه أناس لولا عطاؤهم، لأطلقوا ألسنتهم بذمهم، واختلقوا لهم معايب هم منها براء.
قال أسماء بن خارجة: ما أحب أن أرد أحداً عن حاجة طلبها؛ لأنه لا يخلو أن يكون كريماً فأصون عرضه، أو لئيماً فأصون عرضي عنه:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه
…
لا بارك الله بعد العرض في المال
وللسخاء أثر في نباهة الذكر بعد سلامة العرض؛ فإن الفضائل -والسخاء في مقدمتها- تطلق الألسنة بالثناء، والثناء الصادق من النعم التي تقابل بالارتياح والشكر، ومن هنا نرى الأدباء يمدحون الرجل بأنه حفظ بسخائه الثناءَ من الضياع، أو أقام له سوقاً كانت خاملة، قال مهيار:
لولاكم نُسي الثناء ولم يكن
…
في الناس لا رفد ولا مرفود
وقال أبو الشيص الخزاعي:
وأقام سوقاً للثناء ولم تكن
…
سوق الثناء تعد في الأسواق
وللسخاء أثر في حفظ اللغة ورقيها، والسخاء قد ساعد على هذه الثروة الأدبية التي بين أيدينا؛ فإن كثيراً منها جاء من سخاء أولئك الذين يقدرون اللغة، ويهتزون للشعر البارع، أو النثر البليغ ابتهاجاً، ويلاقون اللغويين والشعراء والكتاب باحتفاء وإكرام، وأشار إلى هذا من يقول:
ما لقينا من جود فضل ابن يحيى
…
ترك الناس كلهم شعراء
وللسخاء أثر في ائتلاف القلوب، وتأكيد رابطة الإخاء، ذلك أنه يبذر محبة المحسنين في قلوب ذوي الحاجات.
ثم إن من وجوه السخاء: صرف المال في نحو ضيافة، أو هدية -ولو لغير ذي حاجة-، وهذا مما يذهب بالجفوة، ويجعل القلب من القلب قريباً:
وكل امرئ يولي الجميل محببٌ
…
وكل مكان يُنبت العزَّ طَيِّبُ
أما أثر السخاء في حماية الوطن، فإن إعداد وسائل الدفاع، إنما يكون بالمال، وعلى قدر سخاء الأمة يكون الاستعداد، وسخاء الأمة في سبيل الدفاع يأتي على حسب شعورها بالكارثة التي تقع فيها إذا هي تركت الدفاع حتى بسط العدو عليها سلطانه.
وقد أشار القرآن المجيد إلى أن الإمساك عن الإنفاق في سبيل دفع العدو، إلقاءٌ باليد إلى التهلكة، فقال تعالى:
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
يدافع الرجل عن وطنه وقومه بالسلاح فيقول:
إذا لم أكن فيكم خطيباً فإنني
…
بسيفي في يوم الوغى لخطيب
ويدافع بقلمه فيقول:
ولي قلم في أنملي إن هززته
…
فما ضرني أن لا أهز المهندا
ويدافع بماله، كما قال لسان الدين بن الخطيب يمدح سلطان تلمسان:
وأعنت أندلساً بكل سبيكة
…
موسومة لا تعرف التدنيسا
إن لم تجرَّ بها الخميس فطالما
…
جهَّزت فيها بالنوال خميسا
وقد أجاد في تشطير لامية ابن الوردي من قال:
"أنا لا أختار تقبيل يدٍ"
…
ما انتضت سيفاً ولا هزت أَسَلْ
ويد شحَّتْ وما سَحَّتْ ندًى
…
"قطعها أجمل من تلك القبل"
سادتي!
أمنيتنا أن نربي نشأنا على هذا الخلق العظيم: خلق السخاء، ونلقنهم أنه مرقاة السيادة والفلاح، كما كان فرضاً علينا أن ننذرهم سوء المنقلب الذي ينقلب إليه البخلاء والمبذرون، فإذا نحن فعلنا هذا، أخرجنا للناس أمة تسمو أن تنحدر في تلك المدنية الهازلة المرذولة، ولا يجد خصومها لقهرها أو سلب حق من حقوقها طريقاً:
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].