الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقوق الزوجية في الإسلام
(1)
شرع الزواج لأغراض سامية نبيلة، ففي الزواج ابتغاء النسل الصالح، وفي النسل الصالح عزة وفخار للوالدين والأسرة والأمة، وفي الزواج الاستعانة على التحلي بأبهى خصلة من خصال المجد هي العفاف، وبالعفاف يسود الأمن، وتسلم علاقات التعاون والوفاق من الانقلاب إلى تناكر وشقاق، وفي الزواج التعاون على مرافق الحياة: الزوجة تدبر المنزل، وترعى الولد، والزوج يمد المنزل بما يسد حاجاته، ويقيم حوله سياجاً من المهابة والصيانة، وفي الزواج كسب صداقة أسرة؛ إذ ينعقد بينك وبين آل الزوجة رابطة المصاهرة، وقد تبلغ هذه الرابطة في قوتها وصفائها مبلغ قرابة ذوي الأرحام.
وهذه الأغراض الشريفة لا تنتظم على وجهها الصحيح، ولا تأتي بثمراتها الطيبة إلا أن تسير المعاشرة بين الزوجين في طريق الألفة وصفاء الود، ونحن عندما نتأمل في الأنظمة والآداب التي رسمها الإسلام لرابطة الزوجية، نجدها قائمة على رعاية هذه الغاية -أعني: حسن المعاشرة- أشد الرعاية.
كان للعرب في الجاهلية أنواع من النكاح مختلفة، فأبطل الإسلام ما كان
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول والثاني من المجلد السادس عشر.
منها شبيهاً بالسفاح، وأقر النوع الذي فيه صيانة العرض، وحفظ النسل، والذي يمكن أن تنتظم به المعاشرة محفوفة بمحبة وصفاء، وهو الزواج الجاري بين الناس منذ مطلع فجر الإسلام.
حث الدين الحنيف على الزواج، وجعله من سنة الذين اصطفى من عباده، وأنكر على من تحدثه نفسه بإيثار حياة العزوبية على حياة الزوجية، ومن شواهد هذا: قوله عليه الصلاة والسلام لقوم ائتمروا على أن يتركوا الزواج؛ لينقطعوا إلى العبادة: "لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني".
وأرشد إلى اختيار الزوجة، ونبه على أن ذات الدين أحق بالاختيار، فقال صلى الله عليه وسلم:"تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات ترتب يداك".
وفضَّل الدين على المال والحسب والجمال من جهة أنه يضمن الأخلاق المهذبة، والآداب الراقية، ويجمع لصاحبته الصيانة من أطرافها، والمراد من الحديث: أن الناشئة في حلية الدين -وإن لم تكن بارعة الجمال- تفضل غيرها ممن لم تتحلَّ بالدين -وأن كانت موسرة، أو حسيبة، أو فائقة الجمال-.
ينهى الدين؛ حفظاً للقلوب من مواقع الفتن أن يرسل الإنسان نظره في محاسن امرأة أجنبية، ولكنه؛ رغبة منه في دوام العشرة بين الزوجين أذن للرجل في أن ينظر إلى وجه المرأة التي يريد التزوج بها قبل العقد عليها، فقال عليه الصلاة والسلام للمغيرة حين خطب امرأة من الأنصار:"انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"؛ أي: تكون بينكما المودة والوفاق.
وجعل الشارع للمرأة ووليها الحق في رعاية كفاءة الزوج؛ فإن اقتران المرأة بمن لا يكاقئها في عفاف ونسب ومال، وسلامة من العيوب البدنية، يجر إليها وإلى وليها حطَّة، ويقف عثرة في سبيل المعاشرة المستحبة بين الزوجين.
قيل لأعرابي: فلان يخطب فلانة، فقال: أموسر من عقل ودين؟ قالوا: نعم، قال: فزوجوه.
وقال رجل للحسن: إن لي بنية، وإنها تخطب، فبمن أزوجها؟ قال: زوجها ممن يتقي الله، فإن أحبها، كرمها، وإن أبغضها، لم يظلمها.
ولقدرة الرجال على اكتساب المال من طرق لا يقدر عليها النساء، أو لا ينبغي لهن مباشرتها، فرض الشارع على الرجل نفقة الزوجية، ويرجع تقديرها إلى ما يتراضيان عليه، فإن لم يتراضيا على مقدار النفقة، أو كيفيتها، قررها أولو الأمر بما يقتضيه حال المرأة، وحال الزوج في يسر وعسر.
جاءت هند بنت عتبة زوجةُ أبي سفيان، فقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف بها.
وقد راعى الشارع في كثير من حقوق الزوجين العرف الحسن الذي يجري بين الناس، فاوجب على الرجل إسكانَ الزوجة في منزل يليق بها، وأن يأتي لها بخادمة في المنزل إن كانت ممن تُخدم، وأن يأتي لولدها بمرضع إن جرى عرف أمثالها بعدم إرضاع أولادهن.
على الرجل حق الإنفاق بالمعروف، وعلى الزوجة تدبير شؤون المنزل، وأن تراعي حال زوجها المالية، فلا تكلفه فوق ما يطيق، وأن ترعى الولد
بالتربية البدنية والروحية.
قال - عليه الصلاة. والسلام -: "والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة"، وقال - صلوات الله عليه -:"خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده".
ومما يستدعيه حسن المعاشرة: أن يفسح الرجل صدره للزوجة، تراجعه فيما يقوله، أو يريد أن يفعله.
قال عمر بن الخطاب: صخبتُ على امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، قالت: فلم تنكر علي أن أراجعك؟! فو الله! إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه.
وقد نبه الشارع الحكيم لمداراة المرأة، إذا أخلت بشيء من واجبات الزوجية في دائرة الصون والحصانة، فقال عليه الصلاة والسلام:"واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع أعوج، وان أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تُقيمه، كسرته، وإن تركته، لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً".
فالحديث الشريف يعلِّم الرجل كيف يسلك في سياسة الزوجة طريق الرِّفق والأناة، فلا يشتد ويبالغ في ردها عن بعض آرائها التي بها عوج؛ فإن ذلك قد يفضي إلى الفراق؛ كما أنه لا يتركها وشأنها؛ فإن الإغضاء عن العوج مدعاة لاستمراره، أو تزايده، والعوج المستمر أو المتزايد قد يكون شؤماً على المعاشرة، فتصير إلى عاقبة مكروهة.
وقد حمي الإسلام مال الزوجة، فلم يجعل ليد الزوج عليه من سبيل، فأبقى لها حرية التصرف فيه على ما ترى، فهي التي تتصرف في مالها كما
تشاء، وليس للزوج حق في أن يتناول منه -ولو درهماً- إلا عن طيب نفسها، وليس له حق في منعها من أن تتصرف في مالها على وجه المعاوضة؛ كالبيع والقرض والإجارة ونحوها، بإجماع العلماء، وليس له حق في منعها من أن تنفق منه، أو تنفقه على وجه التبرع؛ كالصدقة والهبة عند جمهور أهل العلم، وإنما ذهب المالكية إلى أن الزوج، وإن لم يكن له حق في أن يتناول ولو درهماً من مال زوجته، ولم يكن له حق في منعها من عقود المعاوضات، فله حق في أن يمنعها من التبرع بأكثر من ثلث مالها، وأدلة هذا المذهب معروفة في كتب الفقه.
وقضت حكمة الشارع أن تكون العصمة بيد الزوج، ولكنه كرَّه الطلاق، ووضع أمامه أحكاماً ومواعظ شأنها أن تكف الأزواج عن الاستعجال به، وتجعل حوادثه قليلة جداً.
أمر الزوج بأن يعاشر الزوجة بالمعروف، ودعاه إلى التأني حيث يجد في نفسه كراهة لها، فلا يبادر إلى كلمة الطلاق، فقد تكون الكراهة من الأحوال التي تعرض في بعض الأوقات، ثم تزول، وقد بالغ الشارع في التحذير من المبادرة إلى الطلاق، فجعل احتمال أن يكون في الزوجة خير كثير، كافياً في الاحتفاظ بعصمتها، والاستمرار على حسن معاشرتها، فقال تعالى:
وقد يقع بين الزوجين جفاء ينشأ من اعتقاد أحدهما أن الآخر اهتضم حقاً من حقوقه، ومن حكمة الشارع أن كره رفع أمثال هذا الخلاف إلى
المحاكم، وإذاعتها بين من لا خير في اطلاعهم عليها، وأمر بوضع أمثال هذه القضايا بين أيدي رجلين من أسرتيهما؛ ليسلك بها سبيل الإصلاح ما أمكن الإصلاح، قال تعالى:
والحق أقول: إن الذي ينظر في التشريع الإسلامي بعين الباحث حر الفكر، يراه قد أقام الزوجية على أساس من العدل، وكساها آداباً تجعلها صلة روحية تساوي أقرب الصلات النسبية وأمتنها؛ كالبنوة والأخوة، وقد تلقينا عن التاريخ، ورأينا بأعيننا أزواجاً وزوجات عرفوا حقوق الزوجية، واحتفظوا بآدابها التي نصح بها الإسلام، فعاشوا في ارتياح وهناءة موصولين بتعاطف واحترام، وربما ظهر هذا فيما يصدر من الزوجين من عبارات الأسف والتحسر عند الوداع؛ كما قال ابن دَرَّاج عند وداع زوجته:
ولما تدانت للوداع وقد هفا
…
بصبري منها أَنَّةٌ وزفيرُ
تُناشدني عهدَ المودةِ والهوى
…
وفي المهدِ مبغومُ النداء صغيرُ
حتى قال:
وطار جناحُ البين بي وهفت به
…
جوانح من ذعر الفراق تطير
وقد تظهر هذه العواطف الرقيقة في وصية عند حضور الموت؛ كما قال يحيى الهندي الأندلسي يوصي بأن يدفن حذاء زوجته التي توفيت قبله، وحزن عليها حزناً بالغاً:
إذا متُّ فادفني حذاء خليلتي
…
يخالط عظمي في التراب عظامها
ورتّب ضريحي كيفما شاءه الهوى
…
تكون أمامي أو أكون أمامها
لعل إله العرش يجبر صرعتي
…
فيعلي مقامي عنده ومقامها
وقد تظهر العواطف في تشوق في حال غيبة؛ كما قال المحدث ابن حجر متشوقاً إلى زوجته ليلى الحلبية:
رحلت وخلَّفت الحبيب بداره
…
برغمي ولم أجنح إلى غيره مَيْلا
أُشاغل نفسي بالحديث تعلّلاً
…
نهاري وفي ليلي أحنّ إلى ليلى
وقد تظهر في رثاء بعد الموت؛ كما قالت الذلفاء ترثي زوجها نجدة ابن الأسود:
سئمت حياتي حين فارقت قبره
…
ورحت وماء العين ينهل هاملُهْ
وقالت نساء الحي قد مات قبله
…
شريفٌ فلم تهلك عليه حلائلُهْ
صدقْنَ، لقد مات الرجال ولم يمت
…
كنجدةَ من إخوانه من يعادلُهْ
وقد تظهر العواطف في عبارات من المؤانسة يعرب فيها أحد الزوجين عن إعجابه بالآخر؛ كما قال القاضي شريح بن الحارث في زوجة له تسمى: زينب:
فزينب شمس والنساء كواكب
…
إذا طلعت لم تُبق منهن كوكبا
وكما قال العرجي في زوجته، وكان جدُّها من الأب عثمان بن عفان، ومن الأم الزبير بن العوام:
إن عثمان والزبير أحلّا
…
دارها باليفاع إذ ولداها
إنها بنت كل أبيضَ قرمٍ
…
نال في المجد من قُصَيٍّ ذُراها
ولما تزوج الرشيد زوجته العثمانية، أعجب بها، وكان كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين.
ويتلخص لنا من هذا البحث: أن طيب الحياة ومتعتها يتحققان في زوجية سعيدة، وسعادة الزوجية أن يكون كل من الزوجين على خلق سمح، وأدب بهيج، ويجمع إلى ذلك: صفاء الود، والنصح لصاحبه، حاضراً كان أو غائباً. والزوج والزوجة يمثلان في تقارنهما شطري البيت من الشعر، والبيت من الشعر لا يحسن وقعه في النفوس، وتتهاداه الألسن والأسماع إلا أن يكون شطراه منسجمين، يسعد أحدهما الآخر في تأدية المعنى الذي صيغا من أجله، وكذلك الزوجان، لا تزدهي حياتهما إلا إذا انسجما، وقام كل منهما بنصيبه من حقوق الزوجية، وظلا يعيشان في منزل ظِهارته المهابة، وبِطانته الصيانة.