الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحلم وأثره في سعادة الحياة الفردية والاجتماعية
(1)
ترغب النفوس في أشياء، وتنفر من أخرى، وفي النفوس طبيعة غضب تثور عند منعها مما ترغب فيه، أو عند ملاقاتها لما تنفر منه، ومن المخل بنظام حياة الأفراد والجماعات: إطلاقُ العِنان لقوة الغضب، تثور كلما منعت النفوس مما تحب، أو لقيت ما تكره، بل الحكمة أن تكون قوة الغضب خاضعة للعقل خضوعاً يجري في النفس مجرى الطبيعة، حتى لا تهيج إلا للأمر الذي ينبغي أن تهيج له، وفي الوقت الذي ينبغي أن تهيج فيه، ولا تتجاوز الحد الذي ينبغي أن تقف عنده.
ومن أبلغ أن تكون قوة غضبه منقادة للعقل، جارية على مقتضى العلم، فهو الحليم بحق.
وليس من شرط الحلم أن يفقد الرجل قوة الغضب بحيث يكون حاله أمام الإساءة وعدمها سواء، وإنما شرط الحلم: أن لا يطغى الغضب حتى يدفع الرجل إلى الانتقام، أو يمنعه من الصفح حيث يكون الصفح أولى به.
فالحليم قد يأخذه الغضب لجهل جاهل عليه، لكنه يكظم غيظه حتى لا يكون له أثر في غير نفسه:
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السادس من المجلد العاشر.
ولربما ابتسم الكريم من الأذى
…
وفؤاده من حرِّه يتأوَّهُ
وقد يسلم من الغضب للأمر الذي يستشيط له الأحمق غضباً.
والحلم لا يعارض الأخذ بالحزم، شأن الفضائل، يأخذ بعضها بيد بعض، وتتلاقى لتتعاون على البرّ والتقوى، فإذا كان الحل سكون النفس، وعدم تهيجها للمكروه الذي يكفي في دفعه الصفح عنه، فإن من الحزم الغضب للأذى الذي يصدر عن لؤم، ويتمادى ولو مع الإغضاء عنه، قال المتنبي:
إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع
…
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وقال النابغة:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له
…
بوادر تحمي صفوَه أن يُكدَّرا
وقال الحسين بن عبد الصمد يمدح بعض الأمراء:
عجبوا لحلمك أن تحوَّل سطوة
…
وزلال خلقك كيف عاد مكدَّرا
لا تعجبوا من رقة وقساوة
…
فالنار تقدح من قضيب أخضرا
وقال آخر:
أناة فإن لم تغن عقَّب بعدها
…
وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمُهْ
والحلم لا يشتبه بالذلة في حال؛ فإن الذلة احتمال الأذى على وجه يذهب بالكرامة؛ أما الحلم، فهو إغضاء الرجل عن المكروه حيث يزيده الإغضاء في أعين الناس رفعة ومهابة:
سياسة الحلم لا بطشٌ يكدِّرها
…
فهو المهيب ولا تُخشى بوادره
ولا يظهر معنى الحلم إلا مع القدرة على دفع الأذى باليد أو اللسان،
لهذا نرى كثيراً من الشعراء متى أرادوا مدح شخص بمزية الحلم؛ نبهوا على أنه يصفح، وهو قادر على أن يجزي السيئة بمثلها، أو بما هو أكبر منها، كما قال ابن زمرك يمدح سلطان غرناطة:
ويغضي عن العوراء إغضاءَ قادرٍ
…
ويرجح في الحلم الجبال الرواسيا
وقال ابن زيدون يمدح بعض الأمراء:
أرى الدهر إن يبطشْ فمنك يمينُه
…
وإن تبسم الدنيا فأنت لها ثغرُ
عطاء ولا مَنٌّ، وحكم ولا هوًى
…
وحلم ولا عجز، وعزٌّ ولا كِبْرُ
ونراهم متى أرادوا الفخر بالحلم، أشاروا إلى قدرتهم على مقابلة السوء بمثله؛ كما قال عمر بن قيس:
وذي ضغنٍ كففت النفسَ عنه
…
وكنت على مساءته قديرا
ولو أني أشاء كسرتُ منه
…
مكاناً لا يُطيق له جبورا
وكل الأخلاق في حاجة إلى أن تتعهد بالتربية والتهذيب، وأشدها حاجة إلى ذلك التعهُّد: الحلم، ولم نسمع أحداً قال: ترددنا على فلان لنأخذ عنه الشجاعة أو الكرم -مثلاً-، ولكن الأحنف بن قيس يقول: لقد اختلفنا إلى قيس بن عاصم في الحلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه.
وكثيراً ما يشكو الأدباء من قلة الحلم في الناس، قال بعضهم:
من لي بإنسان إذا أغضبته
…
وجهلتُ كان الحلم ردَّ جوابه
وقال أبو العتاهية:
عذيري من الإنسان ما إن جفوته
…
صفا لي ولا إن صرت طوع يديه
وإني لمشتاق إلى ظلَّ صاحب
…
يرقُّ ويصفو إن كدرت عليه
ويروى: أن الخليفة المأمون لما سمع هذين البيتين، قال: خذوا مني الخلافة، وأعطوني هذا الصاحب.
ومكارم الأخلاق كلها خير، وكل مكرمة ترفع صاحبها في الشرف درجة أو درجات، ومن أعظمها أثراً في سعادة حياة الأفراد والجماعات: خلق الحلم، ويكفي الحلم شرفاً أن اسمه أخذ من بين أسماء الفضائل، وسمي به العقل، ومن الحكم الذائعة في كتب الأدب قولهم: ما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى مقدرة.
يقطع الحلم شراً لو قوبل بمثله، لتمادى، أو عظم خطره.
قال أيوب: حلم ساعة يرفع شراً كبيراً.
وقال الأحنف: من لم يصبر على كلمة، سمع كلمات، وربَّ غيظ تجرَّعته مخافة ما هو شر منه.
وقد يضع الحلم مكان الضغينة مودة، ذلك أن الفضيلة محبوبة في نفسها، وتدعو إلى إجلال من يتمسك بها؛ وقد نبه القرآن المجيد لهذه الحكمة بقوله:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
وبالحلم يحفظ الرجل على نفسه عزتها، إذ يرفعها عن مجاراة الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع.
كان عروة بن الزبير إذا أسرع إليه أحد بشتم أو قول سوء، لم يجبه، وقال: إني أتركك رفعاً لنفسي عنك.
ونرى الناس في جانب الحليم متى كان خصمه أو مناظره ينحدر في جهالة، ولا يندى جبينه أن يقول سوءاً.
قال علي بن أبي طالب: "حلمك على السفيه يكثر أنصارك عليه".
ومن فضل الحلم أن الرياسة صغيرة كانت أو كبيرة؛ لا ينتظم أمرها إلا أن يكون الرئيس راسخاً في خلق الحلم.
قال معاوية لعَرابة بن أوس: بم سُدت قومك يا عرابة؟ قال: "يا أمير المؤمنين! كنت أحلم على جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في قضاء حوائجهم"؛ وذلك أن الناس يكرهون جافي الطبع، ولا يجتمعون حول من يأخذه الغضب لأدنى هفوة، إلا أن يساقوا إليه سوقاً، فمن قل نصيبه من الحلم، قل أنصاره، وذهبت من قلوب الناس مودته، والرئيس بحق من يملك القلوب قبل أن يبسط سلطانه على الرقاب.
ثم إن أعزَّ غاية تعمل لها الجماعات: التمتع بنعمة الحرية، ولا تظفر الجماعات بهذه البغية إلا أن يكون الماسك بزمام سياستها على جانب عظيم من الحلم؛ فإن الحليم هو الذي يقدم الناس على نقد تصرفاته، ويصرحون له بآرائهم فيما لا يرضون عنه من أعماله.
أغلظَ رجل إلى معاوية بن أبي سفيان القول، فحلم عنه، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا.
ويعجبني من الشعر المعبر عن الحلم البالغ أبياتُ محمد بن عميرة المعروف بالمقنَّع الكِندي التي يقول فيها:
وإن الذي بيني وبين بني أبي
…
وبين بني عمِّي لمختلفٌ جِدّا
فإن أكلوا لحمي وَفَرت لحومَهم
…
وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا
حتى قال:
ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ
…
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
ونرى الرؤساء الأذكياء يقصدون إلى الوسائل التي قد تثير غضبهم على طائفة من الأمة، فيقطعونها.
لما انتهت فتنة ابن المعتز، وعاد المقتدر إلى الخلافة، واستوزر علي ابن الفرات، حُمل إلى هذا الوزير من دار ابن المعتز صندوقان عظيمان فيهما جرائد بأسماء من بايعوا ابن المعتز، فلم يفتحهما الوزير، ورمى بهما في النار، وقال: لو فتحتهما، وقرأت ما فيهما، فسدت نيات الناس علينا. فسدَّ ابنُ الفرات بهذه السياسة باب الغضب على أشخاص قد يدفع الغضب عليهم إلى فتنة لا يدري كيف تكون عاقبتها.
وإذا وجد الناس في التغلب على الغضب عسراً، فإن لدى الرؤساء أولي القوة ما يجعلهم أقرب إلى الحلم من غيرهم، وهو القدرة على الانتقام من المسيء متى شاؤوا.
قال ابن المقفع: لا ينبغي للملك أن يغضب، فإن القدرة من وراء حاجته.
والشعور بالقدرة على مجازاة المسيء إن لم يؤد إلى الصفح عنه، فإنه يساعد في الأقل على التمهل في العقوية؛ فكان اندفاع الرجل إلى العقوية عند ثورة الغضب قد يلقي به في العقاب على السيئة بأعظم منها.
قال مروان بن الحكم في وصيته لابنه عبد العزيز عندما ولاه عاملاً على مصر: "إن كان بك غضب على أحد من رعيتك، فلا تؤاخذه به عند سَوْرة الغضب، واحبس عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون وأنت
ساكن الغضب، مطفأ الجمرة".
وأعظم فوائد الحلم: الفوز برضا الخالق -جل شأنه-؛ فإنه قد دعا إليه في آيات كثيرة، قال تعالى:
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وقال تعالى:
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
وكثير من المؤمنين يؤذَوْن، فيضبطون أنفسهم عند الغضب ابتغاء رضا الخالق تعالى اسمه.
شتم رجل عمر بن ذر، فقال له: إني أَمَتُّ مشاتمة الرجال صغيراً، فلن أُحييها كبيراً، وإني لا أكافئ من عصى الله فيَّ بأكثر من أن أطيع الله فيه.
وصفوة الحديث: أن الحلم يحتاج إليه عميد الأسرة في منزله، والتاجر في محل تجارته، والعالم في مجلس دراسته، والقاضي في مقطع أحكامه، والرئيس الأعلى في سياسة رعيته، بل يحتاج إليه كل إنسان مادام الإنسان مدنياً بالطبع، لا يمكنه أن يعتزل الناس جملة، ويعيش في وحدة مطلقة.