الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السخاء وأثره في سيادة الأمة
(1)
في الإنسان طبائع تقاسمها الناس على حسب اختلاف بيئاتهم، وطرق تربيتهم، وأطوار حياتهم.
ففي الإنسان طبيعة رحمة وشفقة، وفيه طبيعة الغيرة على أن يكون وطنه في أمن وسلامة، وأمته في سعادة وكرامة، وفيه طبيعة حب الحمد، وأن يثنى عليه بألسنة صادقة.
وينشأ عن هذه الطبائع خصلة بذل المال في وجوه الخير، وهي ما نسميه بالسخاء. وللسخاء باعث آخر قوي الأثر، هو: رجاء الفوز بما وعد الله به المنفق في الخير من الحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم الخالد في الأخرى.
وفي الإنسان طبيعة الخوف من الحاجة والفقر؛ يخاف ذلك على نفسه، أو على من يعز عليه من ورثته، وينشأ عن هذه الطبيعة طبيعة الحرص على جمع المال، وقد يشتد به هذا الخوف، حتى يمسك عن الإنفاق في وجوه الخير، وذلك ما نسميه بالبخل.
وفي الإنسان طبيعة حب الشهوات على اختلاف ألوانها، وطبيعة حب المدح والإطراء -ولو بغير حق-، وينشأ عن هاتين الطبيعتين طبيعة بذل المال
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الرابع من المجلد الثاني عشر.
في الوصول إلى الشهوات الخارجة عن حد الاعتدال، أو في إشباع نهامة أولئك الذين يتمضمضون بالمديح نفاقاً وملقاً، وهي ما نسميه بالإسراف.
فالبخل يقوم على مبالغة الرجل في الخوف من الفقر، والإسراف يقوم على استهانته بالمال حتى لا يبقى له بجانب شهواته قيمة.
وقد يمسك الرجل يده عن الإنفاق في وجوه الخير، ويطلقها في اتباع الشهوات، فيجمع بين رذيلتي البخل والإسراف.
أما السخاء، فيقوم على الشعور بأن للمال قيمة تستدعي عدم الإسراف في إنفاقه، وأن للحياة الفاضلة مطالب يبذل المال في سبيلها غير مأسوف عليه، فالسخاء إنفاق ما ينبغي إنفاقه في الوجه الذي ينبغي الإنفاق فيه.
قيل لمحمد بن عمران بن طلحة بن عبيد الله: إنك تُنسب إلى البخل، فقال:"والله! إني لا أجمد في الحق، ولا أذوب في الباطل".
وقيل لمفضال حكيم: لا خير في الإسراف، فقال: لا سرف في الخير.
ويدخل في قبيل الأسخياء: من يكون له دين على آخر، فيطرحه عنه، ويخلي ذمته منه، وهو يستطيع الوصول إليه بدون تعب ولا عناء.
كان لعثمان رضي الله عنه خمسون ألف درهم ديناً على طلحة بن عبيد الله، فجاءه طلحة يوماً، وقال له: قد تهيأ مالك، فاقبضْه، فقال عثمان: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك.
ويدخل في قبيل الأسخياء: من يستحق على عمل أجراً، ويترك الأجر من تلقاء نفسه، فالطبيب الذي يعالج الفقراء، ولا يقبل منهم ما يقدمونه له من أجور، يعد في الأسخياء، كمن يبذل المال للأطباء على معالجة الفقراء.
ويما أن السخاء يقوم على الرحمة، وحب الحمد الصادق، وقلة الحرص على جمع المال، كان متصلاً بفضائل أخرى، فالسخي في أغلب أحواله يأخذ بالعفو، ويتحلَّى بالحلم، ويجري في معاملاته على الإنصاف، فيؤدي حقوق الناس من تلقاء نفسه، وإذا قضى بين الناس، كان عادلاً، فلا تطمح نفسه إلى رشوة، ولا تحدثه أن يأخذ حق ضعيف إلى قوي، ولتجدنَّ السخي بحق متواضعاً: لا يطيش به كبير، ولا تستخفه الخيلاء، ولتجدنه أقرب الناس إلى الشجاعة، وعزة النفس، وإنما يخسر الرجل الشجاعة والعزة بشدة حرصه على متاع الحياة الدنيا.
أما البخيل، فلفراغ قلبه من الرحمة، ولعدم اهتمامه بأن يكون له في الناس ذكر جميل، ولحرصه على جمع المال حرصاً يعمي ويصم، نجده قد فقد كثيراً من المكارم، وجمع إلى الشح كثيراً من الرذائل، كما قال أحد شعراء الحماسة:
فإني رأيت الشح يا أم هيثم
…
لصالح أخلاق الرجال سَروقُ
ومن المعروف في سنن الله الحكيمة: أن السخي بحق يفوز بالحياة الطيبة، ولا تكون عاقبته إلا الرعاية من الله والكرامة.
قالت خديجة رضي الله عنها للرسول الأكرم - صلوات الله عليه -: "والله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
يتفاضل الناس في السخاء من وجوه شتى:
يتفاضلون من جهة مقدار ما ينفق في الخير، فمن ينفق مئة أسخى ممن ينفق عشرة متى تساويا أو تقاربا فيما يملكان من المال.
يفضل الرجل بمقدار ما ينفق حتى يبلغ درجة الأريحية، وهي إنفاق مال كثير في غرض شريف.
اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة داره بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل، سمع بكاء أهل خالد، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ فقالوا: يبكون لدارهم، فقال: يا غلام! ائتهم، فأَعلمْهم أن المال والدار لهم جميعاً.
ويتفاضلون من جهة حال الإنفاق، فالذي ينفق في السر أكملُ في السخاء ممن لا ينفق إلا في العلانية. قال تعالى:
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].
ويتفاضلون من جهة استصغار ما ينفق واستعظامه، فالذي ينفق في الخير، وينسى أو يتناسى أنه أنفق، هو أسخى ممن ينفق، ثم لا يزال يذكر ما أنفق، ولاسيما ذكره في معرض الامتنان، قال شاعر الحماسة:
فما كان مفراحاً إذا الخير مَسَّه
…
ولا كان منّاناً إذا هو أنعما
وقال عبد الله بن طاهر:
أفرّق بين معروفي ومَنِّي
…
وأجمع بين مالي والحقوق
ويتفاضلون من جهة السرعة إلى البذل والتباطؤ عنه. فمن يبذل المال لذوي الحاجة لمجرد ما يشعر بحاجتهم، يفضل من لا يبذل لهم المال إلا بعد أن يسألوه.
قال مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة:
مضى من كان يحمل كلَّ ثقلٍ
…
ويسبق فضلُ نائله السؤالا
وقال سعيد بن العاص: قبّح الله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة.
ومن هنا أنكروا على أبي تمام قوله يمدح بعض الأسخياء:
تكاد عطاياه يجنّ جنونها
…
إذا لم يُعَوِّذها بنعمة طالب
وقالوا: ما بال هذا الممدوح يحوج عطاياه إلى الجنون، ويلتمس لها العوذ والرقى، وفي يده أن يمنحها ذوي الحاجات، ولا ينتظر بها نغمات السائلين؟!.
ومن يقصد بالبذل موضع الحاجة، عرفه أو لم يعرفه، يكون أسخى ممن يخص بالنوال من يعرفهم ويعرفونه.
سألت امرأة عبد الله بن جعفر، فأعطاها مالاً كثيراً، فلاموه، وقالوا له: إنها لا تعرفك، وإنما كانت يرضيها اليسير، فقال: إن كانت ترضى باليسير، فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي.
ومن يعطي عن ارتياح، وتلذذ بالعطاء يعد أسخى ممن يحسن، وفي نفسه حرج من العطاء:
ولم أر كالمعروف أمّا مذاقه
…
فحلوٌ وأمّا وجهه فجميلُ
ومن هنا نرى الشعراء ينبهون عند المديح بالكرم على ابتهاج الممدوح وسروره عند البذل، كما قال ابن زمرك يمدح ملك غرناطة:
يسخو الغمام ووجهه متجهَّمٌ
…
والوجهُ منه مع الندى يتهلَّلُ
ومن كان كرمه أصيلاً؛ أي: نشأ فيه منذ الولادة، يكون أكثر خيراً ممن يكون كرمه حديثاً، وقد يدل الأدباء على رسوخ الرجل في السخاء بأن
يقولوا لك: إن كرمه أصيل، ورثه عن أبيه، أو جدّه؛ كما قال مادح يحيى ابن خالد:
سألت الندى: هل أنت حرٌّ؟ فقال: لا
…
ولكنني عبدٌ ليحيى بن خالدِ
فقلت: شراء؟ قال: لا بل وراثة
…
توارثني عن والدٍ بعد والدِ
ومن علامات رسوخ الرجل في السخاء: أن لا يجعل بينه وبين طالبي العرف حجاباً غليظاً؛ كما قال ابن أبي السمط:
له حاجب في كل أمر يشينه
…
وليس له عن طالب العرف حاجبُ
ومن علامات رسوخ الرجل في السخاء: أن يلاقي خدمه الزائرين والمستجدين بأدب جميل. قال محمد بن جرير الخارجي:
سهل الفناء إذا حللت ببابه
…
طلق اليدين مؤدّب الخدّام
وكان الراسخ في السخاء من أهل البادية لا ينزل إلا بالأماكن المرتفعة؛ ليرى الناس منزله على بعد في النهار، ويبصرون ناره كذلك في ظلام الليل.
قال أبو زياد الأعجم:
له نار تشب على يَفاع
…
إذا النيران ألبست القناعا
وقال ابن هرمة:
أغشى الطريق بقبتي ورواقها
…
وأحل في نشز الربا فأقيم
يتفاضل الناس في السخاء، وأرفع درجاته أن يكون الرجل في حاجة ملحة إلى ما عنده، ويدع حاجته، ويصرفه في وجه الخير، وذلك ما يسمى بالإيثار، قال تعالى:
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].