الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المكائد التي تدبر للإسلام، إلا أنهم قوم لا يكادون يفقهون قولاً، أو أنهم يفقهون، ولكنهم لا ينصحون للقوم المسلمين، وعلى أي حال كان أولئك المحاربون، وهؤلاء الأغبياء أو الخائنون، لابد لأرباب الأقلام الرشيدة من أن ينقذوا العالم الإِسلامي من هذه الفتنة العمياء، ويحولوا بينه وبين عاقبة هي الخسران المبين.
*
افتتاح نادي جمعية الهداية الإِسلامية
(1):
أيها السادة! كنا نود أن لا نخطب أو نكتب إلا بحثاً في علم، أو حثاً على فضيلة، أو دعوة إلى إصلاح، وإنا لنكره أن نخوض فيما يمس الأمة من أمراض اجتماعية، أو فيما يبث بينها من زيغ وجحود، ولكنا نرى أنفسنا ملجئين إلى أن نصف حالتنا كما هي، وأن نذكر الحقائق كما يذكرها المؤرخ الذي يحرص على أن تكون نتائجه صادقة، وأحكامه في الأفراد أو الأمم عادلة، وإن الخطر لا يبلغ أن يكون كبيراً إلا أن يسكت عنه الناس يوم يظهر صغيراً.
فإذا عرَّجنا في خطبنا على عوج في الأخلاق، أو مرض في القلوب، فإنما نقصد إلى السلامة من العوج، والحماية من المرض، ولا تنهض الأمة من كبوتها إلا أن تفتح صدرها لرجال ينقذونها على نصح، ويلفتون نظرها
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد الأول. انتقلت إدارة جمعية الهداية إلى دار جديدة في شارع سوق السلاح بالقاهرة، واتخذت فيها نادياً لإلقاء المحاضرات، وأقامت لهذه المناسبة في يوم الخميس 15 ذي القعدة سنة 1347 هـ الموافق 25 أبريل "نيسان" سنة 1929 م حفلة ألقيت فيها خطب وقصائد تحوم على الغرض الذي أنشئت له الجمعية. وقد حضر هذه الحفلة جمع عظيم من العلماء والفضلاء، وطلاب العلم بالمعاهد والمدارس. وألقى الإمام بصفته رئيس جمعية الهداية الإِسلامية هذه الكلمة.
إلى ما يلقى في سبيلها من رجس وفساد.
أيها السادة! ما من أحد في الشرق إلا يشعر بحاجتنا إلى أن ننهض كما تنهض الأمم المستقلة بتدبير شؤونها، نتحد في هذا الشعور، والذي يمكن أن تختلف فيه الأفراد أو الجماعات منا، إنما هو الوسائل التي نسلكها إلى مسابقة تلك الأمم الناهضة، بل إلى لحاقها؛ لأنها تقدمت علينا أشواطاً واسعة المدى.
لا بأس في اختلاف الآراء النابتة في نفوس يعمرها الإخلاص، فإن الباحثين المخلصين لا يختلفون اختلافاً بعيداً، ولا يصرون على رأي شهدت الحجة على أنه غير سديد، وإنما البأس في آراء أو نزعات تقوم على أهواء، فهذه هي التي تطيش في عمى، وتنبذ إلى الأحلام الراجحة على سواء، وهذه هي التي تبعد بين الجماعات، فيتفرقون إلى غير ملتقى.
في العالم الإِسلامي اليوم دعايتان بينهما من الاختلاف مثل ما بين بياض النهار وسواد الدجى:
دعاية تقوم على ما أرشد إليه الإِسلام من حكمة وفضيلة ونظام، وحجةُ القائمين بهذه الدعاية -وهم المسلمون بحق-: أن الإِسلام لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من وسائل السعادة والعظمة إلا أرشد إليها، أو نبه على مكانها.
وقد حدثت بجانب هذه الدعاية الرشيدة دعاية تقصد إلى صرف القلوب عن الهدى، وتسعى إلى أن تفتح في وجوه فتياننا وفتياتنا طرق المجون والخلاعة، والشبهةُ التي ينصبها القائمون بهذه الدعاية لاصطياد النفوس الغافلة، هي: أن هذه الأمم الباسطة سلطانها على كثير من أوطاننا، لا تتقلد الإِسلام ديناً، ولا تبالي أن تذهب في الخلاعة واتباع الشهوات أينما تشاء.
يقولون هذا بأفواههم، كأنهم لا يعقلون أن تلك الأمم القوية إنما تسيطر
علينا بما تملك من القوة المادية، وبما تحوطها به من نحو الصبر وقوة الأمل، أما الجحود وإطلاق العنان في الشهوات، فوصمة في عرض الإنسانية، وعلة لا تشيع في جماعة إلا انقلبت خطواتهم إلى وراء، ولو أن أمة ملكت من القوة المادية مثل ما يملك هؤلاء، ثم استقامت على طريقة الرشد والعفاف، لكان لها من القوة المعنوية ما يجعلها أرجح وزناً، وأشد بأساً، وأرفع لواء، وأعز جانباً.
كنا نشعر بدعاية الجحود والخلاعة، ونسمع لها صوتاً ضئيلاً، ونلمح لها أثراً حقيراً، حتى انطلقت الحرب العامة من عقالها، وفعلت في الحالة النفسية فعلتها، فإذا بعض النفوس التي كانت تغتبط بهدايتها وطهارة سرائرها، أصبحت تباهي بجحودها، وتنحط في أهوائها، وإذا بعض الأقلام التي كانت تدعو إلى خير وإصلاح، أخذت تنزع إلى شر، وتنادي إلى خسار، وإذا بعض من شأنهم أن يكونوا أنصاراً للحق والفضيلة، يتحيزون إلى دعاة الجحود والإباحية، ويضاهونهم في الكيد للدين القيم، ولكن من تحت ستار.
ساعد هذه الدعاية على أن تبلغ ما بلغت، وتفسد من نفوس شبابنا ما أفسدت: أنها تتصل بطوائف من المخالفين، يحرصون على أن لا يبقى لشريعة الإِسلام عين ولا أثر، أفلا تنظرون إلى زعمائها كيف يتملقون حلفاءهم، فيلتقطون سيئات العرب وغيرهم من رجال الإِسلام بسمِّ الخياط، ويعمدون إلى مباهتة التاريخ، فيجعلون الفضل في كل صالحة إلى غير القوم المسلمين؟!.
أن يسمعوا سُبَّة طاروا بها فرحاً
…
مني وما سمعوا من صالح دفنوا
عرف فريق من نبهاء المسلمين أن هذه الدعاية لا تستند إلى رجاحة في الفكر، أو رسوخ في العلم؛ فإن زعماءها يبحثون فيخلطون، وينطقون فلا
يصيبون، ولولا مظاهر يأخذون بها أعين الغافلين من الناس، لذهبت مساعيهم كالنقش على الماء عبثاً.
عرف هؤلاء النبهاء منشأ هذه الدعاية، وعرفوا الأيدي التي تشد أزرها، وتنفق عليها بسخاء، وعرفوا أنها تقوم على بهرج من القول، فلم يروا من الصعب عليهم أن يقعدوا لها كل مرصد، ويطاردوها بما استطاعوا من قوة، وما القوة إلا الرمي بالحجة والموعظة، فقاموا يؤلفون الجمعيات، وينشئون الصحف، ويفتحون النوادي، وقد ظهر لهذه المساعي النبيلة -بحمد الله- أثر عظيم.
وعلى هذا النحو تنهض جماعة من أهل العلم إلى إنشاء جمعية إسلامية علمية أدبية فأنشؤوها، ولقبوها:"الهداية الإسلامية".
فالغرض الأسمى لهذه الجمعية: حماية أبناء المسلمين وإنقاذهم من حفرة تلك الدعاية الغاوية.
فشأن هذه الجمعية أن تعرض حقائق الدين الحنيف، وحكمة تشريعه في صورها الخالصة النقية، وشأنها أن تبحث في تاريخ رجال الإِسلام من العرب وغير العرب، تنبه على ما كان لهم من عبقرية في العلم، أو فضل في البيان، أو شرف في الأخلاق، أو رشد في السياسة.
ولا تضل أمة وقفت على حكمة شريعتها، ودرست تاريخ الأعلام من رجالها.
قال محمد بن إسحاق المعروف بأبي العباس: أدركت شيوخ الحي وهم يحضروننا ناديهم ونحن صبيان نسمع ما يتذاكرونه، وكانوا يفتتحون الكلام ويختتمونه بإنشاد هذا البيت:
قد يعلم الناس أنا من خيارهم
…
في الدين ديناً وفي أحسابهم حسبا
تعمل هذه الجمعية على إصلاح الأخلاق، ولا سيما خلق كالمداجاة والملق يكون لها في ظهور الباطل على الحق أثر شديد، وقد علَّمنا التاريخ والمشاهدة أن لا خير في نفوس تلقي بمودتها وتملقها إلى من يقطعون سبيل الرشد ويبغونها عوجاً، ويعجبني قول الشاعر الحماسي:
ولست وإن قربت يوماً ببائع
…
خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبُّبِ
تحرص هذه الجمعية على أن ترى في العالم الإِسلامي رجالاً بارزين تسمو هممهم، ويجدُّ جدُّهم حتى يتركوا في الدنيا دوياً يمثل قول ابن الحسين:
وتركك في الدنيا دوياً كأنما
…
تداولَ سمعَ المرء أنمله العشر
دويٌّ، ولكنه يتفجر من نفوسٍ طينتها الإخلاص، وغذاؤها أشار الشرف الخالد على زهرة هذه الحياة، دويّ، ولكن يتموج فيه صوت الحق، فلا يسع الباطل إلا أن يخر له صعقاً زاهقاً.
ومن علل الضعف الذي دخل في الإِسلام: تلكم الاختلافات التي كان مبدؤها اختلافاً في الرأي، ثم صار إلى اختلاف في القلوب، وإذا اختلفت القلوب، فلا شيء سوى التخاذل والتنازع، وإذا تخاذلت الأمة وتنازعت، فإنما هو الفشل، وإنما هي الدائرة التي يتربصها خصومها ليقضوا من سيطرتهم عليها وطراً.
ولهذا أزمعت جمعية الهداية أن تعمل على رفع التجافي بين الفرق الإِسلامية، ولعلها تستطيع يتأبيد الله، وبوسيلة مجلتها الضاربة في الشرق يميناً وشمالاً، أن تضع مكان التجافي ألفة وسلاماً، وإذا عزَّ على زعماء هذه الفرق الوصول إلى تقليل مواقع الاختلاف في الآراء، فلا يعز عليهم أن يخففوا وقعه
في القلوب، ويكفوه عن أن يشيع فيها فاحشة التقاطع، والقصد إلى الأذى.
يبدو لنا أن تلك الدعاية التي تأكل الطمأنينة والهمم الخطيرة من نفوس أبنائنا، لم يتيسر لها أن تبلغ ما بلغت إلا بالتفرق الضارب بين علماء الإِسلام، فإن من أهل العلم من لا يشعر بهذه الفتنة كما هي، ومنهم من يشعر بها وبسوء مغبتها، ويدري من أين تثور عاصفتها، ولكن تعظم في عينه حتى يأخذه اليأس من أن توجد قوة تطعن في مقاتلها.
نظر القائمون على جمعية الهداية إلى هذه العلة: علةِ تفرق أهل العلم، فوضعوا في منهج الجمعية أن تعمل على تعارف العلماء المستنيرين أينما كانوا، حتى يكونوا على بينة من أمر هذه الدعاية، وينهضوا لإطفائها من حول فتياننا وفتياتنا قبل أن يصلَوها وهم لا يعقلون.
لا يهولنا خطب هذه الدعاية النزقة، ولا يخالط أوهامنا أن أمرها قد نفذ، وأنها أصبحت الروح المتفشي في البلاد، فإننا نخاطب الفطر السليمة، والعقول النابهة، وإنما نخاطبها بالحجة. وما وقعت الحجة إلى فطرة سليمة، أو إلى عقل نابهٍ إلا كانت الهداية ثالثهما.
ولقد قام محمد - صلوات الله عليه -، والروح السائدة في البلاد جحود وخلاعة، فجاهد بما أوتي من حكمة، فقلب الجحود إلى طمأنينة، والخلاعة إلى وقار وعفاف، ولم يقف أمام حكمته ما يملكه خصومه من ألفاظ وأساليب، ولا ما يملكونه من ثراء وزعامة. وهذا ما يملكه أعداء شريعته السمحة في هذا اليوم، فإن أومؤوا إلى الفلسفة، أو تفيقهوا باسم الفلسفة، قلنا: الصادق من نظراتها يخدم القرآن، وسفسافُها لا يلقي الشبهة في كلام البشر، فضلاً عن أن يعترض حكمة علام الغيوب.
وإذا قام اليوم نفر يريدون القضاء على اللغة العربية الفصحى، ويدعوننا إلى أن تتفرق شيعاً، ويزخرفون القول في أن يستعمل كل شعب أو وطن لغته الدارجة، فإن هذه الجمعية ستظل ثابتة على الدفاع عن هذه اللغة العامرة السامية، واضعة يدها في أيدي من يعملون لإعلاء شأنها، وبسط سلطانها على الشعوب الشرقية قاطبة.
تسير هذه الجمعية على حكمة نطق بها أبو العباس المبرّد إذ يقول:
ليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحدثانه يهتضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق.
فهذه الجمعية أكيسُ من أن تتمسك بالقديم على أي حال، أو تنبذ الجديد كيفما كان، بل شأنها أن تحترم الصالح، وإن كان ابن يوم أو ليلة، ولا تعبأ بغير الصالح، وإن بلغ من الكبر عتياً.
فلا نقيم تقدم الزمن ولا لحداثته وزناً:
ألا إنما الأيام أبناء واحد
…
وهذي الليالي كلها أخواتُ
وإنما نعتمد على أصول العلم الصحيح، وما تقضي به العقول البريئة من الأهواء.
أخذت هذه الجمعية على نفسها أن لا تتعرض لشؤون السياسة؛ فإن الجمعيات التي تحوم على السياسة قد تقصر أعمارها، أو لا تستقر على مبادئها، ونحن نبغي لهذه الجمعية عمراً طويلاً، وجولة واسعة، وخطة قيمة راسية.
أيها السادة! هذه مقاصد جمعيتنا الناهضة نعرضها على حضراتكم في وجه من الإيجاز، وقد أخذنا نعمل لتحقيقها في قرارة جأش، وحرية ضمير، وصراحة في القول، وإنا إن شاء الله لمهتدون.