الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استعمال الألفاظ في غير مواضعهما ومضاره الاجتماعية
(1)
وضعت الألفاظ ليعبر بها عما يجول في الضمائر من المعاني التي يراد نقلها إلى أذهان أناس آخرين، وقد تقصَّت المعاجم الألفاظ المفردة، وعينت لكل لفظ معناه اللائق به، ووضع النحاة وعلماء البيان قوانين يعرف بها كيف تؤلف هذه الألفاظ المفردة حتى تصير جملاً تؤدي صور المعاني القائمة في النفوس كما هي.
فمن استعمل مفرداً في غير معناه المعروف في معاجم اللغة، أو مقاييسها، فقد ارتكب خطأٌ، وقد ينبني على هذا الخطأ خلل في تصوير المعنى الذي صيغ الكلام من أجله، وربما كان لهذا الخطأ ضرر على الأخلاق ونظام الاجتماع.
ونضرب لهذا أمثلة تدلك على شيء من المضار الناشئة من استعمال الألفاظ في غير مواضعها.
يجري في المديح لفظ: العزة والتواضع، وفي الذم: لفظ الكبير والذلة.
والعزة: صون النفس عن مواضع الإهانة. والذلة: الانحطاط إلى هذه المواضع القذرة.
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثامن عشر.
والكبر: التعاظم في مقام يقتضي حسن اللقاء وخفض الجناح. والتواضع: طهارة النفس من ذلك التعاظم الممقوت.
ولا تتشابه معاني هذه الألفاظ في نظر من يميز المعاني بحدودها، ويضع كل لفظ في موضعه اللائق به، ولكنك تجد في الناس من يتعاظم، ويسمي تعاظمه عزة، أو يهوي إلى الأقدام ذلة، ويسمي تذلُّلَه تواضعاً، أو يرى في غيره عزة، فيسميها كبراً، أو يرى فيه تواضعاً، فيسميه ذلة، وإلى هؤلاء يشير الشاعر بقوله:
وفي الناس من عدَّ التواضع ذلة
…
وعدَّ اعتزاز النفس من جهله كبرا
وقد اشتكى بعض العظماء من أناس سموا اعتزازه انقباضاً، ونبههم لخطئهم في استعمال كلمة الانقباض، فقال:
يقولون لي فيك انقباض وإنما
…
رأوا رجلاً عن موقف الذلِّ أحجما
ويقال في المديح: فلان سليم القلب؛ أي: إن نفسه لا تنطوي على سوء، ولا تنزع إلى شر، ويقال في الذم: فلان خَبّ، والخَبُّ: الخدَّاع الذي يسعى بين الناس بالفساد، وقد جرى في أوهام بعض الناس أن سلامة القلب تقرن بالغباوة، وعدم التنبه للوجوه التي يأتي منها الشر، وأن الخَبَّ يقارنه الذكاء والنباهة، وجرَّهم هذا الوهم إلى أن يطلقوا على الشخص كلمة:"طيب"، أو "مبارك" على معنى: أنه ينخدع، ويقع في الشر من حيث لا يشعر، وأراد أحد الحكماء الأذكياء أن يدفع هذا الخطأ، فقال:"لست بخَبّ، والخَبُّ لا يخدعني".
ومن الظاهر أن ذلك الوهم نشأ من الذهول عن أن العلم بوجوه الشر يشع الألمعية، وكثيراً ما يجمع الرجل بين الألمعية وسلامة القلب، قال
عمر بن الخطاب: من لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه.
ويجري في صفات المديح لفظ: المداراة، وفي صفات الذم لفظ: المداهنة، والمداراة: أن تلقى من تخشى شره بتبسم، أو تخصه بإكرام، أو تترك محاورته في أمر يبطش بمن يحاوره فيه، أو تذكر ما عرفته من محاسنه، وتسكت عن مساويه، أما المداهنة، فهي أن تصفه بالعلم وهو جاهل، أو بالشجاعة وهو جبان، أو بالعدل وهو ظالم، أو يبدي رأياً خطأ، فتقول له: أصبت الحق.
وقد يخطئ بعض الناس، فيحسب البشاشة في وجه المطبوع على الإساءة اتقاء لإساءته مداهنة، ويحسب آخرون أن التبسط في إطراء من يتقى شره مداراة، في حين أن علم الأخلاق يسمي الذي يجري على لسانه مديح الأشرار: منافقاً، ومداهناً.
ويسمى أناس الإحجام حيث يجب الإقدام: حزماً، وإلى هؤلاء يشير المتنبي بقوله:
يرى الجبناء أن الجبن حزم
…
وتلك خديعة الطبع اللئيم
ويسمي أناس بسط اليد بالمال في وجوه البر: إسرافًا، وقال بعض هؤلاء لمن أنفق في سبيل الخير مالاً كثيراً: لا خير في الإسراف، فقال:"لا سرف في الخير".
ويسمي أناس الأناة: إبطاء، وللأناة مقام غير مقام الإبطاء، قال شاعر الحماسة:
منا الأناة وبعض القوم يحسبنا
…
أنا بِطاءٌ وفي إبطائنا سرع
ويسمي أناس إطلاق اللسان أو القلم بهجاء الأشخاص، أو بالنقد
المحشو بالسباب: حرية، وإنما الحرية في إبداء الآراء أو نقدها بأسلوب تأذن فيه الفضيلة، ولا تنكره آداب البحث.
وقد يطلق الناس اسم المباح على المحظور؛ ليتناولوه، أو ليدعوا إليه في غير تحرج، وإلى هذا يشير النبي الأكرم - صلوات الله عليه - بقوله:"يشرب الخمر ناس من أمتي يسمونها بغير اسمها"(1).
وقد تنبه لخطر تحريف الألفاظ عن مواضعها (كونفشيوس) زعيم المذهب الذائع في الصين "الكونفشيوسية"، وجعل من أسس مذهبه في الإصلاح الرجوع بالألفاظ إلى موضوعاتها الصحيحة، وقال: إذا لم تكن الأسماء صحيحة، لم يطابق الكلام حقائق الأشياء، وإذا لم يكن مطابقاً للحقائق، وقع الخلط في اللغة، واضطربت الأفكار، ولم تقع العقوبات على من يستحقها، فتتعطل الأعمال المدنية.
وليس من شك في أن استعمال الألفاظ في غير مواضعها وسيلة من وسائل اختلال الشؤون الاجتماعية، وأنه من واجب المصلحين تنبيه الناس لهذه الناحية من الفساد، وأن يتداركوا إصلاحها بعناية وحكمة.
(1) رواه الإمام النسائي في "سننه".