الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خير نظام للحكم
(1)
تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين حديثاً قيماً عن خير نظام للحكم، مذكراً بعدالة حكم الإسلام، وضارباً المثل على أنه دين إنساني خالص، ونظام كفل المساواة التامة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات:
تجتاز مصر في أيامنا التاريخية الحاضرة أعظم انقلاب اجتماعي مر بها منذ قرون؛ لأنه الانقلاب الوحيد الذي ينشد لمصر النظام؛ لتتمكن من الاستقرار عليه، والاستمرار فيه إلى الأبد.
ومما يلاحظ في هذا الموقف: أن التطورات الماضية لم تكن نتيجة طبيعية للوعي القومي، ولذلك كان الوطن يفاجأ بها مفاجأة، وكان نظام الحكم الذي يترتب على تلك المفاجآت يفرض على البلاد فرضاً، أما من استعمار قاهر، أو من مستبد متغلب. ولذلك قلما كان يلاحظ فيه حاجة الأمة واقتناعها، والأساليب التي ترتاح إليها، وتعتبرها منتزعة من روحها وذوقها، ومن المبادئ التي آمنت بها، ونشأت عليها، وترجع بذكرياتها وتقاليدها إلى ما حفظه التاريخ من مفاخرها وأمجادها، لذلك كان نظام الحكم في مصر في العصور الأخيرة بعيداً عن أمنية الاستقرار، وكان مؤيداً بالقوة القائمة عليه، لا بالاقتناع به،
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الثالث والعشرين.
والطمأنينة له، والإيمان بصلاحه.
والآن، وقد عزمت مصر على أن تختار نظامها بمحض إرادتها، فمن سعادتها أن يكون نظامها المرتجى منتزعاً من مثلها العليا التي تؤمن بها، وترتاح إليها، بوازع من النفس، وإيمان من القلب، لا بوازع من سلطان القوة الصماء، ونصوص القانون الذي كثيراً ما شكا أقطابه مواطن الضعف فيه.
ولقد أخذ كل عالم بمزايا نظام من الأنظمة الأجنبية يعرض على الرأي العام مزايا ذلك النظام، محاولاً إقناع الأمة بالأخذ به. إن هذه الأنظمة -مع كثيرة عيوبها، وما يحف بها من مواطن الضعف- لا يتعاملون بها مع كل من يتعامل معهم من الشعوب القوية والضعيفة، والمشاهد من حالهم: أنهم مع الشعوب القوية في عداء متواصل، ومع الشعوب الضعيفة في بغي مخجل، وما هكذا يكون أصحاب المبادئ الإنسانية السليمة، والنظم البريئة التي يراد منها سعادة المجتمع في عصر يفتخر بحضارته وعلومه، فالوصف النظري الذي نسمعه من فصحائنا وخطبائنا لبعض تلك النظم الأجنبية عنا، لا نرى آثاره في البلاد التي اخترعته، وعملت به، وقلبت جميع الأوجه في تعديله وترقيعه وتحويره لينتج لها السعادة، فكان أملها منه في السعادة كأمل الظمآن بالسراب، فكيف بنا ونحن الأجانب عن تلك النظم المخترعة لغيرنا؟! ولو حاولنا استعارتها، لكانت لنا كما تكون اللبسة التي تستعار للممثلين.
إن الدعاة لتلك الأنظمة قرروا في مؤلفاتهم، وأعلنوا في صحفهم: أنها كل لا يتجزأ، وهم يدعون هذه الأمة إلى أن تأخذ بهذا الكل الذي لا يتجزأ، شاءت أو أبت، والأمة لها نظام فطري نظيف ينظر إلى الحق من حيث هو حق، وإلى الخير من حيث هو خير، وتدين الله بقول خاتم رسله: "أيها الناس!
إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها"، وقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري واليه على البصرة: "آسِ بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك".
هذا النظام الفطري الذي يقيم الحدود على الكبير والصغير سواء، لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى، وحثَّ على استعمال الأصلح، واختيار الأمثل فالأمثل للولايات العامة والوظائف، وأوجبَ على ولي الأمر أن يقلد أعمال المسلمين لمن يجده صالحاً منهم؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم. "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين".
وقد جاء كذلك عن عمر بن الخطاب: أنه قال: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين".
ومعنى هذا: أن النظام الذي يكفل المساواة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات، ويجعل من الواجب على كل من ولي شيئاً من أمر المسلمين أن يوجه في موضع، وفي كل عمل من الأعمال أصلحَ من يقوم به، ويؤديه الأداء الصحيح، فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره بسبب قرابة، أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو لضغينة في قلبه على الأحق، أو لعداوة بينهما، فقد
خان الله ورسوله والمؤمنين
…
وهو النظام الذي يشعر الحاكم والمحكوم بأنهما سواء، وهذا أبو عبيدة الجراح يضرب لنا أروع الأمثال في هذا الباب، فقد فتح بلد حمص، فجاؤوا له بطعام فاخر صنع خصيصاً، فما كان منه إلا أن سأل: أهذا الطعام قد أطعم منه الجيش؟ فقالوا: كلا، وإنما هو لك. فقال: ردوه
…
فإني لا آكل طعاماً لم يأكل الجيش منه!!.
وقد جاء في الآثار: أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك، فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أفغرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم، وكان في مرض موته، فقال: يابني
…
والله! ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني
…
هذه هي الأمثال التي تضرب في معنى العدالة في ولاية أمور الناس، وكلها تجمع على أن الإسلام دين إنساني محض، وهو نظامنا الذي نؤمن به؛ خلافاً للأنظمة الأجنبية عنا، وإن العمل به ليحول هذه الأمة إلى كتلة فولاذية مؤمنة بنظامها كإيمانها بكعبتها وقرآنها، والأمر أعظم وأخطر من أن ترتجل فيه الخطط والنظم.
ونحن لا ندعو الأمة وأهل الحل والعقد فيها إلا إلى التروي والتفكير والدرس والمقارنة، مع العلم بأن مصر لا تعلم منذ عشرة آلاف سنة إلى الآن حكماً أعدل ولا أرأف ولا أسعد من الحكم الذي بسط جناح رحمته عليها
في المئة السنة الأولى من الفتح الإسلامي، ودليل عدله ورأفته وسعادته: أن مصر باختيار منها تحولت إليه بأرواحها وقلويها وألسنتها، فكانت الدرة المتألقة في تاج الوطن العربي والإسلامي، ويرجو لها كل محب لها أن تبقى كذلك إن شاء الله إلى ما شاء الله.