الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سعيد بن جُبير والحجَّاج
(1)
سعيد بن جبير من أفاضل التابعين العالمين بتفسير كتاب الله، وسنة الرسول الأكرم - صلوات الله عليه - المعروفين بالتقوى والورع، ومواجهة الظالمين بقول الحق.
وكان سعيد بن جبير مع عبد الرحمن بن الأشعث أيام خروجه على عبد الملك بن مروان، ولما قتل ابن الأشعث، وتفرق عنه أصحابه، التحق سعيد بمكة، وكان واليها خالد بن عبد الله القسري، فبعث به إلى الحجاج ابن يوسف، ولما دخل سعيد على الحجاج، جرت بينهما المحاورة الآتية:
الحجاج: ما اسمك؟
سعيد: سعيد بن جبير.
الحجاج: بل أنت شقي بن كسير.
سعيد: بل كانت أمي أعلم باسمي منك.
الحجاج: شقيت أمك، وشقيت أنت!
سعيد: الغيب يعلمه غيرك.
الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظَّى.
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد الرابع عشر.
سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك، لاتخذتك إلهاً.
الحجاج: فما قولك في محمد؟
سعيد: نبي الرحمة، وإمام الهدى.
الحجاج: فما قولك في علي: أهو في الجنة، أو هو في النار؟
سعيد: لو دخلتها وعرفت من فيها، عرفت أهلها.
الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟
سعيد: لست عليهم بوكيل.
الحجاج: فأيهم أعجب إليك؟
سعيد: أرضاهم لخالقي.
الحجاج: فأيهم أرضاهم للخالق؟
سعيد: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.
الحجاج: أحب أن تصدقني.
سعيد: إن لم أحبك لا أكذبك.
الحجاج: فما بالك لم تضحك؟
سعيد: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين، والطين تأكله النار!
الحجاج: فما بالنا نضحك؟
سعيد: لم تستو القلوب.
الحجاج: ويلك يا سعيد!
سعيد: لا ويل لمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة.
الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟
سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله! لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة!
الحجاج: أفتريد أن أعفو عنك؟
سعيد: إن كان العفو، فمن الله، وأما أنت، فلا براءة لك ولا عذر.
الحجاج: اذهبوا هنا قتلوه.
"أعوان الحجاج يأخذون سعيداً ليقتل بالسيف".
"سعيد يخرج وهو يضحك".
الحجاج: ردوه، وقال لسعيد: ما أضحكك؟
سعيد: عجبت من جرأتك على الله، وحلم الله عليك.
"الحجاج يأمر ببسط النطع"، وقال: اقتلوه.
سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين.
الحجاج: وجهوا به لغير القبلة.
سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله.
الحجاج: كبوه على وجهه.
سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.
الحجاج: اذبحوه.
سعيد: أما إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة.
سعيد: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي!
"سعيد يقتل في شعبان سنة خمس وتسعين للهجرة بواسط".
"الحجاج بموت بعده في شهر رمضان من تلك السنة".
مأخذ العبرة من تلك القصة:
إن المتضلع من حقائق الدين الحنيف، المستنير بعقائده، الراسخ في آدابه، لا يكبر في عينه أهل الدنيا، وإن بلغوا أعظم رياسة، ولا يروعه ما يحيط بهم من سيوف وأسنة، وإن كانوا يغمسون أيديهم في دماء الأبرياء إلى ما فوق المرافق، وكان من الميسور لسعيد أن يقول بين يدي الحجاج كلمات يستدر بها عفوه، ولكن النفس التي امتلأت بهدى الله، وأشربت حكمة القرآن المجيد، تأبى أن تطلب الحياة من طريق الذلة والخضوع لمن تدنست سمعته بارتكاب البغي والفساد في الأرض، وإذا رغبت في الحياة، فإنما ترغب فيها للازدياد من العمل الصالح، والكلم الطيب، وهل يرجى عمل صالح أو كلم طيب لنفس تقع في الملق، وتستجدي رضا المجرمين بإطرائهم، أو الانحطاط في أهوائهم؟!