الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده. ومن كان ظل الله في أرضه، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولايته عامة ومطلقة، كولاية الله تعالى، وولاية رسوله الكريم".
أورد المؤلف هذه الجمل على طريق الحكاية لما يقول المسلمون، وهو غير مؤمن بها، ثم أضاف إليها أسفل الصحيفة نبذة من خطبة ألقاها أبو جعفر المنصور بمكة، وموضع إنكاره منهاة كما دلّ عليه في (ص 7): قوله في مستهلها: "إنما أنا سلطان الله في أرضه"، ودل في تلك الصحيفة أيضاً على عدم رضاه عن قولهم:"ظل الله الممدود".
فقوله: حمى الله في بلاده، لم يعزه المؤلف إلى قائل بعينه، ومعناه قريب المأخذ، بعيد عن مواقع اللبس، فإن الحمى يقال على المكان الذي يحميه الشخص، ويمنع غيره من أن يدانيه، فيرجع إلى معنى: الحرم، والكنف، ومعنى كون السلطان حمى الله: أنه الحرم الذي يأمن به كل خائف، والكنف الذي يضرع إليه كل ذي خصومة.
وقوله: وظله الممدود على عباده، ليس بمستنكر" إذ قد روي في معناه حديث نبوي، وهو: "السلطان ظل الله في الأرض"، والمعنى: أنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس (1).
*
مناقشة المؤلف في زعمه: أن ولاية الخليفة عند المسلمين كولاية الله ورسوله:
وقوله: فولايته عامة ومطلقة؛ كولاية الله تعالى، ورسوله الكريم.
(1)"النهاية" لابن الأثير (مادة: ظل).
هذا من مبالغاته التي تضع للخلافة في نفوس المستضعفين من الناس صورة مكروهة، ولو كان المؤلف يمشي في بحثه على صراط سوي، لتحرى فيما ينطق به عن المسلمين أقوالهم المطابقة، وهم لم يقولوا: إن ولاية الخليفة عامة ومطلقة كولاية الله؛ فإن الله يفعل ما يشاء فيمن يشاء، ولا يسأل عما يفعل، والخليفة مقيد بقانون الشريعة، ومسؤول عن سائر أعماله، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم له خصائص لا يحوم عليها الطير، ولا يبلغها مدى البصر، منها: أن تصرفاته نافذة، ولا تتلقَى إلا بالتسليم، وتصرفات الخليفة قد تقابل بالمناقشة والنقض والإنكار، فإن عني بالعموم والإطلاق: مجردَ تناولها للرقاب والأموال والأبضاع (1)، قلنا له: إن نزاهة البحث، والأخذ فيه بفضيلة الإنصاف، يقضيان عليه بطرح هذه العبارة المرهقة بالعموم والإطلاق، وتشبيه المخلوق بالخالق؛ {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17].
قال المؤلف عازياً إلى "طوالع الأنوار"، وشرحه "مطالع الأنظار":"ولا غرو أن يكون له حق التصرف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم". قطف المؤلف هذه الجملة من أصلها، وأطلقها خالية من الروح التي تجعلها حكمة جلية، فإن صاحب "المطالع" إنما ألقاها في نسق التعليل لأخذ العدالة شرطاً من شروط الإمامة، فقال: الرابعة: أن يكون عدلاً؛ لأنه يتصرف في رقاب الناس، وأموالهم، وأبضاعهم. وقال شارحه في "المطالع": لو لم يكن -يعني: الإمام- عدلاً، لم يؤمَن تعديه، وصرْف أموال الناس في مشتهياته، وتضيع حقوق المسلمين.
فالمراد من التصرف في الأموال والرقاب والأبضاع: التصرف بحق،
(1) الأبضاع: البُضْع: الزواج، وعقده، والمهر، والجمع: بضوع، وأبضاع.
وهو التصرف بنحو القضاء، أو بعمل مشروع؛ كاستخلاص الأموال المفروضة، وحمل الناس على أمر الجندية، وولاية نكاح من لا ولي لها.
ثم ذهب المؤلف في نحو من صحيفة يكيل للخليفة من إطلاق اليد، وسعة السلطان، ما كففنا طغيان بعضه فيما سلف، وسنتولى تهذيب بعضه فيما يأتي، وقد شعر وهو منفلت العنان؛ بأن الحقيقة تصيح به من كل جانب، وتضرب بأشعتها على رأس قلمه، فوقف بمقدار ما اعترف بأن الخليفة عند المسلمين مقيد بحدود الشرع، ثم انقلب يصف السبيل التي رسمتها الشريعة بكلام له باب باطنه فيه النقد، وظاهره من قبله الرضاء. وإنما قلت: باطنه فيه النقد، لأنه سيصرح بإنكار الخلافة، وإنكار أن يكون للإسلام شأن في السياسة، دون أن تأخذه فيما أنكر أناة أو هوادة.
ثم قال في (ص 5): "نعم. هم يعتبرون الخليفة مقيداً بقيود الشرع، ويرون ذلك كافياً في ضبطه يوماً إن أراد أن يجمح، وفي تقويم ميله إذا خيف أن يجنح".
يرى المسلمون أن الخليفة مقيد بقانون الشريعة على الوجه الذي سنحدثك عنه في نقض الكتاب الثاني، وأن الإِسلام قرر لهم من الحقوق أن تقوم حول الخليفة أمة من الذين أوتوا العلم، يتقصَّون أثره، فيأمرونه بالمعروف إن تهاون، وينهونه عن المنكر إن طغا، فإذا ركب غارب الاستبداد، وأعياهم تقويم أوده، خلعوه غيرَ مأسوف عليه.
وقد كان بعض الخلفاء يرعى هذا الحق بصدق؛ كما أن الأمة في الصدر الأول كانت تعمل عليه بقوة، فانتظمت السياسة، وأشرق محيَّا العدالة، وقامت قاعدة المساواة على وجهها.