الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في صحة مداركهم وأمانتهم العلمية.
*
شكل حكومة الخلافة:
أرأيت المؤلف كيف أخرج الخلافة في تلك الصورة المنكرة، وأخذ يزدري بها، ويتمضمض بسبابها، ثانياً عطفَه عن النظر إلى حقيقتها التي رسمتها الشريعة، وضرب لها الخلفاء الراشدون بسيرتهم القيمة أحسن مثال.
وإليك هذه الحقيقة خالصة مطمئنة؛ لتعلم أنها قائمة على حكمة عالية، وسياسة عادلة:
يقرر جمهور أهل العلم في شروط الخليفة: أن يكون بالغاً في العلم رتبة الاجتهاد، وأن يكون ذا رأي وخبرة بتدبير الحرب والسلم، وأن يكون شجاعاً لا يرهب الموت الزؤام فما دونه، وأن يكون عادلاً لا تأخذه في الحق لومة لائم. وتُعرف مزية العدل باختبار سيرته، فيما كان يتولاه من أعمال قبل منصب الخلافة، أو بما تدل عليه التجارب والمشاهدة الطويلة من استقامته، وشرف همته، وإنكاره ما يفعل الظالمون بغيرة وحماسة.
ومن الأسس التي تقوم عليه الخلافة الشرعية: فريضة الشورى؛ بحيث لا يقدم الخليفة على أمر حتى يلقيه بين يدي أهل الحل والعقد، وتتناوله الآراء من كل جانب، ليتبين الرأي الراجح، ويذهب في سياسته على بينة وروية.
ولم يقف الإسلام عند تكليف الخليفة بإقامة فريضة الشورى، فأقبل على الأمة، ووضع في عنقها واجب مراقبة الخليفة ورجال دولتهم؛ لتقويمهم إذا انحرفوا، وإيقاظ عزمهم إذا أهملوا.
تحققت تلك الشروط من علم، وعدالة، وشجاعة، وحكمة رأي في
بعض الخلفاء، وأخذوا أنفسهم بشريعة الشورى، وفتحوا باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وجه الأمة بصدق وإخلاص، وكان بين يدي الأمة أعدل قانون أساسي، وهو كتاب الله، وأصدق بيان يفصل مجمله، وهو سنّة رسول الله، فلا الخليفة يستبد فتأخذه العزّة بالإثم، ولا الأمة ترهب سطوته فتحجم عن أمره ونهيه.
قال الإمام الغزالي: الخلفاء رضي الله عنهم يحبون الردّ عليهم، ولو كانوا على المنابر، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخطب: أيها الناس! من رأى منكم فيّ اعوجاجاً، فليقوّمه. فقام له رجل وقال: والله! لو رأينا فيك اعوجاجاً، لقوّمناه بسيوفنا. فقال: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه.
وليس في الشريعة ما يمنع الخليفة أن يفوّض جانباً من شؤون الأمة إلى وزير ذي علم ورأي وشجاعة وعدل، فيمنحه ما كان له من تدبير وتنفيذ.
قال الماوردي في "الأحكام السلطانية"(1) عند البحث عن وزارة التفويض: "هي أن يستوزر الإمام من يفوِّض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضائها على اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، قال الله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 - 32]، فإذا جاز ذلك في النبوة، كان في الإمامة أجوز، ولأن ما وكِّل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرّده بها.
(1)(ص 18) مطبعة السعادة، سنة 1327 هـ.
ثم ذكر لهذه الوزارة شرطين:
أحدهما: يختص بالوزير، وهو مطالعة الإمام بما أمضاه من تدبير، وأنفذه من ولاية وتقليد.
والثاني: يختص بالإمام، وهو أن يتصفح أفعال الوزير، وتدبيره الأمور؛ ليقر منها ما وافق الصواب، ويستدرك ما خالفه" (1).
ولأهل الحل والعقد أن يطالبوا الخليفة بهذه الاستنابة، متى رأوا المصلحة قاضية بها. ولا فرق بين أن يكون المستناب واحداً، أو متعدداً.
فشكل بعض الحكومات القائمة على خليفة ووزراء ومجلس نيابي يجري انتخابه تحت ظلال الحرية التامة، لا يخالف الشكل الملائم للخلافة الحقيقية بحال، وقد كان السلطان سليمان ابن السلطان سليم في أوائل المئة العاشرة، رتّب قانوناً "استعان فيه بالعلماء العاملين وعقلاء رجال دولته، وجعل مداره على إناطة تدبير الملك بعهدة العلماء والوزراء، وتمكينهم من تعقب الأمراء والسلاطين إن حادوا، وذلك أن ملك الإسلام مؤسس على الشرع الذي من أصوله وجوب المشورة وتغيير المنكر، والعلماء أعرف بالنيابة ومقتضيات الأحوال، فإذا اطّلع العلماء والوزراء على شيء يخالف الشريعة والقانون الخادم لها، فعلوا ما تقتضيه الديانة من تغيير المنكر بالقول أولاً، فإن أفاد، حصل المقصود، وإلا، أخبروا أعيان الجند بأنّ وعظهم لم ينفع، وبيّن في القانون المذكور ما يؤول إليه الأمر إذا صمم السلطان على أن ينفذ مراده، وإن خالف المصلحة، وهو أن يُخلع، ويُولّى غيره من البيت الملكي، وأخذ على ذلك العهود والمواثيق من العلماء ووزراء الدولة بمقتضى هذا القانون
(1)(ص 20) منه.
في الاحتساب على سيرة السلاطين كمنزلة وكلاء العامة في أوروبا" (1).
ولا يصح أن تكون الخلافة في هيئة تؤلف لأجل مسمّى، ثم تنفرط؛ فإن نصوص العلماء متضافرة على أن يكون الخليفة فرداً يستمر في رياسته ما دام حائزاً على رضا الأمة، بعيداً عن الاستبداد في الحكم.
قال الأستاذ الشيخ محمد عبده (2) في كتاب: "الإسلام والنصرانية"(3):
"فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة. وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد، وهو السلطان أو الخليفة".
ومن أدلة وضع الخلافة في فرد: أن الأحاديث الصحيحة تسمّي صاحب هذه الرياسة: إماماً، وخليفة، وأميراً، وهذه الألفاظ لا يستقيم حملها على جماعة إلا أن تذهب في فهمها على غير الطريق المعروف من لسان العرب، وأوضح من هذا دلالة حديث:(4)"من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه".
وقد يبلغ العدل والحرية أشدهما لعهد الحكومة التي يرأسها فرد ثابت إذا لم تكن بيدها السلطة التشريعية، وتكون مقيدة في تنفيذها بنظام الشورى،
(1) مقدمة "أقوم المسالك" للوزير خير الدين (ص 34) طبع الإسكندرية، 1299 هـ.
(2)
محمد عبده بن حسن خير الله (1266 - 1323 هـ = 1849 - 1905 م) مفتي مصر. ولد في "شنرا" من قرى الغربية، ودفن القاهرة.
(3)
(ص 69).
(4)
"صحيح مسلم"(ج 6 ص 23).