الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المؤلف في (ص 6): "قد كان واجباً عليهم إذ أفاضوا على الخليفة كل تلك القوة، ورفعوه إلى ذلك المقام، وخصّوه بكل هذا السلطان، أن يذكروا لنا مصدر تلك القوة التي زعموها للخليفة، أنِّي جاءته، ومن الذي حباه بها، وأفاضها عليه؟ ".
ألقى المؤلف هذا السؤال المشبع بالإنكار بعد أن قرر على لسان المسلمين واجبات الخليفة، وكساها صبغة غير الصبغة التي فطرها الله عليها، ولم يخرج هذا السؤال على قارئ الكتاب فجأة حتى يتلجلج لسانه في الجواب عنه دهشة، بل روح الصحف السابقة، والثوب الفضفاض الذي كانت تتبرج فيه جملها، يُشعران بأن المؤلف سيذهب في أمر الخلافة مذهب الجاحدين، ويتبع غير سبيل المسلمين، وقد عرفت إذ ناقشناه في أقواله ومنقولاته: أن الإِسلام لم يجع في أمر الخليفة ببدع من القول، ولم يملكه سلطة تبخيس المسلمين شيئاً من حريتهم، أو تجعله يتصرف في شؤونهم حسب أهوائه، فالقوة المشروعة للخليفة لا تزيد على القوة التي يملكها رئيس دولة دستورية، وانتخابه في الواقع إنما كان لأجلٍ مسمّى، وهو مدة إقامته قاعدة الشورى على وجهها، وبذله الجهد في حراسة حقوق الأمة، وعدم وقوفه في سبيل حريتها.
*
من أين يستمد الخليفة سلطته
؟
قال المؤلف في (ص 7): "على أن الذي يستقرئ" عبارات القوم المتصلة بهذا الموضوع، يستطيع أن يأخذ منها بطريق الاستنتاج: أن للمسلمين في ذلك مذهبين:
المذهب الأوّل: أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى، وقوته من قوته".
الاستمداد من سلطان الله وقوته يجيء لمعنيين:
أحدهما: الاستمداد بطريق الاستقامة والعدل، وهو معنى صحيح، وحقيقة واقعة، ومن شواهده: قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، فالخليفة قد يستمد من سلطان الله وقوته، متى كان طيب السريرة، مستقيم السيرة، ينفق العزيز من أوقاته في إصلاح شؤون الأمة، ولا يألو جهداً في الدفاع عن حقوق البلاد بحكمة وثبات.
ثانيهما: الاستمداد من قوة الله وسلطانه بطريق غيبي، ليس له من سبب سوى كونه خليفة، وهذا ما يقصد المؤلف إلى جعله أحد مذهبين في الإِسلام، وقد جاءت هذه الدعوى مكبّة على وجهها، ولم يسعفها المؤلف بما يبلّ ظمأها.
قال المؤلف في (ص 7): "ذلك رأي تجد روحه سارية بين عامة العلماء، وعامة المسلمين أيضاً، وكل كلماتهم عن الخلافة ومباحثهم فيها تنحو ذلك النحو، وتشير إلى هذه العقيدة".
شدّ ما عُنينا بأمر الخلافة، وأنفقنا في مطالعة الكتب الممتعة بالبحث عنها نظراً طويلاً، ووقتًا واسعاً، فلم نعثر -مع هذا- على كلمة تنبئ -ولو بطريق التلويح-: أن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله، وقصارى ما يستنتج من كلماتهم عنها، ومباحثهم فيها: أن الله أوجب على الناس إقامة إمام، وأن ولايته تنعقد إما بمبايعة أهل الحل والعقد، وإما بعهد من الخليفة قبله، وأنه إذا سعى في السياسة فساداً، كان للأمة انتزاع زمام الأمر من يده، ووضعه في يد من هو أشد حزماً، وأقوم سبيلاً.
والذي يؤخذ بطريق الاستنتاج: أن المؤلف عرف أن للغربيين في سلطة الملك مذهبين، فابتغى أن يكون للمسلمين مثلهما، ولما لم يجد في كلام أهل العلم عن الخلافة ما يوافق، أو يقارب القول بأن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله، تلمسه في المدائح من الشعر أو النثر، وادعى أنه ظفر ببغيته، وساقها كالشواهد على تقرير مذهب ليس له بين الراسخين في العلم من مبتدع ولا تبيع. ولا أظن المؤلف يجد في مباحث الخلافة ما يشتم منه رائحة هذا المذهب، ويتركه إلى الاستشهاد بأقوال الشعراء، أو كلمات صدرت على وجه المبالغة في الثناء.
ولو رمى هذا المذهب على كتف الفرقة الغالية من الشيعة، لكان له في بعض مقالاتهم متكأ، ولكن حديث هذه الطائفة لا مساس له بالخلافة التي طرح عليها بحثه، وسلقها بكلماته الحداد.
قال المؤلف في (ص 7): "وقد رأيت -فيما نقلنا لك آنفاً-: أنهم جعلوا الخليفة ظل الله تعالى، وأن أبا جعفر المنصور زعم أنه سلطان الله في أرضه".
إذا جعلوا الخليفة ظل الله تعالى، فللحديث المروي:"السلطان ظل الله"، وسبق شرحه بأنه خرج مخرج التشبيه، حيث إنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس عمن يأوي إليه، وإضافته إلى الله لأنه أمر بإقامته وإطاعته، وأين هذا من معنى استمداد السلطان من سلطان الله؟!.
وقول أبي جعفر المنصور أنه "سلطان الله في أرضه" لا صلة له بالمعنى الذي يتحدث عنه المؤلف، وتأويل معناه -كما عرفت-: أن الله أمر بإقامة السلطان وطاعته، ومن هذه الجهة يصح إضافته إلى الله، وبالأحرى حيث يكون قائما على حراسة شرعه، ويسير في سياسة الناس على صراط مستقيم،
فإن لم يكن المنصور على هذه السيرة، فغاية ما يقال عنه: أنه سمّى نفسه سلطان الله، وهو غير صادق في هذه التسمية.
قال المؤلف في (ص 7): "وكذلك شاع هذا الرأي، وتحدث به العلماء والشعراء منذ القرون الأولى، فتراهم يذهبون دائماً إلى أن الله - جل شأنه - هو الذي يختار الخليفة، ويسوق إليه الخلافة".
يعرف العلماء أن بين الخالق - جلّ شأنه - وأمر الخلافة صلة القضاء والقدر، وذلك معنى لا يختص بالخلافة، بل يتحقق في كل ما يحدث في الكون من محبوب ومكروه، وهناك معنى آخر زائد عن القضاء والقدر، وهو الإرادة بمعنى: المحبة والرضا، وهذا أيضاً يتعلق بكل ما فيه خير وصلاح، ولا يتعلق بأمر الخلافة إلا بتفصيل، وهو أنْ يقال: متى كان الخليفة مستقيماً عادلاً، كانت ولايته خيراً وصلاحاً، وصح أن يقال: وقعت بإرادة الله؛ أي: محبته ورضاه، وإن كان جائراً فاسقاً عن أمر ربه، كانت ولايته شراً وفساداً، واستحقت أن يقال عليها: إنها لم تكن محبوبة لله، ولا مختارة عنده، وممن نبه على حقيقة هذه الإرادة واختصاصها بما هو خير ومأمور به: أبو إسحاق الشاطبي (1) في "موافقاته"، وشيخ الإِسلام ابن تيمية (2) في "رسالة الأمر والإرادة"(3). فدعوى أن العلماء يذهبون دائماً إلى أن الله هو الذي يختار
(1) إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (
…
- 790 هـ =
…
- 1388 م)، أصولي حافظ من أهل غرناطة.
(2)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام (661 - 728 هـ = 1263 - 1328 م) الإمام، وشيخ الإِسلام، ولد في حران، وانتقل إلى دمشق، وتوفي معتقلاً في قلعتها.
(3)
(ص 262).