الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] إنما يفهم منه: إنكار أن يكون في استطاعة البشر إدخال الإيمان في القلوب بوسائل القسر والإكراه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آل عمران: 20]، وقوله:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22] هما من الآيات التي كانت تنزل قبل مشروعية الجهاد؛ لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم حين يشتد به الحزن من إعراض المشركين عن سبيل الهدى، وتكاد نفسه الشريفة تذهب عليهم حسرات.
وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256} تتمشى مع شرع الجهاد أيضاً؛ إذ يجوز أن يكون المراد من الآية نفي أن يكون، في الدين إكراه من الله وقسر، بل مبنى الأمر على التمكين والاختيار، ولولا ذلك، لما حصل الابتلاء، ولبطل الامتحان، وإلى ذلك ذهب القفّال" (1). وإذا نظرنا إلى أن الآية نزلت بعد تقرير حكم الجزية، كان معنى الآية: "إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية، ورضاه بحكم الإسلام" (2).
فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم تعتمد على الحجة والإقناع والموعظة، وكانت تتخذ الجهاد دفعاً لأذى المشركين، وعوناً على بث الدعوة إلى رب العالمين.
*
من مقاصد الإسلام: أن تكون لأهله دولة:
قال المؤلف في (ص 53): "وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة والرهبة،
(1)"روح المعاني"(ج 1 ص 469).
(2)
"تفسير ابن جرير الطبري"(ج 3 ص 12).
فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه يكون في سبيل الملك، ولتكوين الحكومة الإسلامية، ولا تقوم حكومة إلا على السيف، وبحكم القهر والغلبة، فذلك عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه".
من مقاصد الإسلام الأساسية: أن تكون لأهله دولة ليس لمخالف عليها من سبيل، ولم يكن المقتضى لإقامة هذه الدولة ما يخطر على طلاب الملك من التباهي بالرياسة، والتمتع بملاذ هذه الحياة، وإنما يقصد الإسلام من تأسيس الدولة الإسلامية أمرين:
أحدهما: إجراء أحكامه العادلة، ونظمِه الكافلة بسعادة الحياة؛ إذ لا يقوم عليها بحق إلا من آمن بحكمتها، وأشرب قلبه الغيرة على تنفيذها.
ثانيهما: الاحتفاظ بكرامة أوليائه، وإعزاز جانبهم؛ حتى لا يعيشوا تحت سلطة مخالف يدوس حقوقهم، ويرفع أبناء قومه أو ملته عليهم درجات.
فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أقام الحكومة الإسلامية لهذين المقصدين اللذين يتجليان في كثير من الآيات؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وقوله:{وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].
ولقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم حكومة رفعها المسلمون على رؤوسهم، وتلقوا تشريعها وتنفيذها بقلوبهم، والقوة والرهبة إنما كان يعدّها لمن يبدؤونه بالقتال، أو يبيتون المكيدة لأخذه على غرّة، أو يقفون في سبيل دعوته، ولم يجاهد في سبيل الملك قط، وإنما كان يجاهد لإذن الله في سبيل الله.
وقول المؤلف: "فذلك عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه" إنما هو
النافقاء يبنيها اليربوع، (1) حتى إذا حوصر من باب، خرج من آخر، وذهب بسلام، ولا ندري ماذا يريد بقوله:"عندهم"، والظاهر أنه لم يرد بذلك علماء الإسلام، فإنه قال في صدر الباب: إنه لا يعرف لأحد من العلماء رأياً صريحاً في بحث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملكاً أم لا. ولو قالوا: إن الجهاد النبوي كان في سبيل الملك، لكان هذا القول صريحاً في ذهابهم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملكاً.
على أننا لا نعلم، ولا يمكن أن نعلم أن أحداً من علماء الإسلام يذهب إلى أن الجهاد النبوي كان في سبيل الملك، وكيف تصدق أن يذهب أحد إلى هذا السفساف، وأنت لا تتلو قرآناً أو حديثاً في الجهاد إلا وجدته يُصرح وُيرشد إلى أن يكون "في سبيل الله".
ثم أتى المؤلف بمثل آخر من أمثلة الشؤون الملكية، وهو ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من العمل المتعلق بالشؤون المالية من حيث جمع المال، وتوزيعه بين مصارفه.
ثم قال في (ص 54): "ولا شك أن تدبير المال عمل ملكي، بل هو أهم مقومات الحكومات. على أنه خارج عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وبعيد عن عمل الرسل باعتبارهم رسلاً فحسب".
الذي يعرفه رجال العلم: أن تحديد وظيفة الرسول يرجع إلى إرادة المرسل، فهو الذي يحد له العمل الذي يقوم به، ويبلغه عنه، ومعرفة أن هذا العمل داخل في وظيفة الرسول، إنما تتلقى من الأدلة السمعية التي
(1) اليربوع: حيوان صغير على هيئة الجرذ الصغير، وله ذنب صغير ينتهي بخصلة من الشعر، وهو قصير اليدين، طويل الرجلين.
يصدق بها المؤمنون برسالته.
إذاً، كل عمل يقوم الدليل على أن الرسول عليه السلام فعله عن وحي، فهو داخل في وظيفته. ولا ريب في أن التدبير المالي الذي ذكره المؤلف كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به بأوامر إلهية؛ مثل قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
…
} [التوبة: 60]. وهل -بعد هذا- ينشرح صدر مسلم لأن يقول: إن تدبير النبي عليه السلام لأموال الزكاة والجزية وخمس الغنيمة بعيد عن عمل الرسل من حيث إنهم رسل؟!.
قال المؤلف في (ص 55): "إذا ترجح عند بعض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة، واطمأن إلى الحكم بأنه صلى الله عليه وسلم كان رسولاً وملكاً، فسوف يعترضه بحث آخر جدير بالتفكير. فهل كان تأسيسه صلى الله عليه وسلم للمملكة الإسلامية، وتصرفه في ذلك الجانب شيئاً خارجاً عن حدود رسالته صلى الله عليه وسلم، أم كان جزءاً مما بعثه الله له، وأوحى به إليه؟!.
نفث المؤلف كلمة الارتياب في أن للنبي عليه الصلاة والسلام رياسة سياسية، وأفتى بأن إنكار ذلك لا يمس جوهر الدين، فصادمته أعمال من السيرة النبوية لا تصدر إلا ممن قبض على زمام السياسة، فأخذ يقلل من شأنها، ويسميها:"بعض ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة".
ثم خشي أن لا يجد الارتياب إلى قلوب بعض القارئين منفذاً، فيخرجوا بضمائر طاهرة، فسولت له نفسه أن يهمس في آذان الذين اطمأنوا إلى الحكم بأنه صلى الله عليه وسلم كان رسولاً ملكاً، ويفتنهم من ناحية أخرى، وهي: أن تأسيس النبي صلى الله عليه وسلم للمملكة الإسلامية، وتصرفه في ذلك الجانب، هل كان خارجاً
عن حدود الرسالة، أو كان جزءاً مما أوحي به إليه؟
قال المؤلف في (ص 55): "فأما أن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لا نعرف في مذاهب المسلمين ما يشكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفراً ولا إلحاداً".
كان المؤلف يرجو أن يجد في مذاهب المسلمين القول بأن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، ولكنه لم يعرف ما يشاكل ذلك، ولا يذكر في كلامهم ما يدل عليه، وأراد أن يجعل لهذا الرأي المنشق عن الآراء الإسلامية مكاناً في النظر، فشهد له بالصلاح لأن يكون مذهباً، وأذن للإيمان بأن يلتقي معه في نفس واحدة.
سبق للمؤلف آنفاً أن ذكر في الشؤون الملكية: الجهاد، والزكاة، والجزية، والغنائم، وساق الكلام فيها على أسلوب يخيل إلى القارئ أنها لم تجئ عن طريق الوحي، وإذ صرف قلمه عن آيات الجهاد، وآيات الزكاة والغنائم، بدا له أن المجال فسيح، وطفق يشهد للآراء المطوية على الكيد للإسلام باللياقة لأن تكون مذهباً.
تصرُّف النبي صلى الله عليه وسلم في مثل الجهاد والزكاة والجزية والغنائم يستند إلى صريح القرآن، فلا مفر لمنكره من الوقوع في حمأ الإلحاد. ولا أراني في حاجة إلى نقل شيء من نصوص الراسخين في علم الشريعة وفتواهم؛ بأن من أنكر حقيقة معلومة من الدين بالضرورة، فقد انقلب على عقبه مدبراً عن الإسلام، ولا يحق له بعد ذلك الإنكار أن يتأثّم من المسلمين إذا طرحوه من حساب أولياء دينهم الحنيف.