الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالواقع أن الخلافة ليست من نوع العقائد، وإنما حشروها في علم الكلام؛ للعذر الذي أبداه شارح "المقاصد"، وشارح "المواقف".
*
بحث في (أعطوا ما لقيصر لقيصر):
قال المؤلف في (ص 18): "تكلم عيسى بن مريم عليه السلام عن حكومة القياصرة، وأمر بأن يعطى ما لقيصر لقيصر، فما كان هذا اعترافاً من عيسى بأن الحكومة القيصرية من شريعة الله، ولا مما يعترف به دين المسيحية، وما كان لأحد ممن يفهم لغة البشر في تخاطبهم أن يتخذ من كلمة عيسى حجة له على ذلك، وكل ما جرى في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة إلخ، لا يدل على شيء أكثر مما دل عليه المسيح حينما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر".
يعلم المؤلف أن البحث في حكم إسلامي، ولأحكام الإسلام أصول معروفة لا يدخل في حسابها ما يدور على ألسنة أهل شريعة أخرى؛ إذ لم نحط بمورده خبراً، ولم نملأ كفنا من الثقة بسنده، والقائلون من علماء الإسلام بالاعتماد على شرع مَن قبلنا في تقرير الأحكام يقيدونه بأمرين:
أحدهما: أن يجيء محكياً في القرآن أو السنّة، ورواية "أعطوا ما لقيصر لقيصر" لم تقصها علينا آية ولا حديث.
ثانيهما: ألا يرد في شريعتنا ما يقتضي نسخه. وما عزاه إلى المسيح عليه السلام لا ينطبق على ما جاء في الشريعة من حرمة الإقامة تحت راية غير المسلم، والخضوع لسلطانه. قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقال تعالى:{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8] ، ثم إن محمد بن عبد الله - صلوات الله عليه - لم يعترف
بسلطة دار الندوة بمكة، وحاربها حتى خضد شوكتها، واستأصل جرثومة فسادها، ولم يعترف بسلطة قيصر، وأخذ يعدّ ما استطاع من قوة ليدفع شره، ويقوض دعائم ملكه.
قال المؤلف في (ص 19): "وإذا كان صحيحاً أن النبي- عليه الصلاة والسلام قد أمرنا أن نطيع إماماً بايعناه، فقد أمرنا الله تعالى كذلك أن نفي بعهدنا لمشرك عاهدناه، وأن نستقيم له كما استقام لنا، فما كان ذلك دليلاً على أن الله تعالى رضي الشرك، ولا كان أمره تعالى بالوفاء للمشركين مستلزماً لإقرارهم على شركهم".
دعوى أن الأمر بطاعة ولي الأمر لا يدل على طلب ولايته، كما أن الأمر بالوفاء لمشرك عاهدناه لا يدل على الشرك، تمثيل يمشي براكبه إلى وراء؛ فإن أقل ما في الصورة الأولى: أن المجتهد ينظر في طاعة أولي الأمر، فيفقه أنها لم تقصد لذاتها، ولا لمجرد الخضوع للأمراء، وإنما يراد بها: مصلحة وراء ذلك كله، وهي المساعدة على إقامة الحقوق، وانتظام شؤون الجماعة. ولا شك أن هذه الغاية تتوقف على نصب الأمير؛ كما تتوقف على حسن طاعته، فيصح أن يقال: إن الأمر باطاعة أولي الأمر نبه على طلب ولايتهم، وإن المجتهد أتى إلى وجوب نصب الإمام من طريق النظر في الأمر بطاعته.
أما الأمر بالوفاء لمشرك عاهدناه، فخارج عن السبيل. لأن علته ترجع إلى الاحتفاظ بنوع من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وهو الصدق والثقة اللذان يقوم عليهما شرف المعاملات، ونظام السياسات. ويتضح جلياً: أن هذه الحكمة يختص بها الوفاء بالعهد، ولا يشاطره فيها الشرك بالله، ولا المعاهدة التي هي موكولة إلى اجتهاد صاحب الدولة.
قال المؤلف في (ص 19): "أو لسنا مأمورين شرعاً بطاعة البغاة والعاصين، وتنفيذ أمرهم إذا تغلبوا علينا، وكان في مخالفتهم فتنة تخشى من غير أن يكون ذلك مستلزما لمشروعية البغي، ولا لجواز الخروج على الحكومة؟ ".
الأحاديث الحاثّة على إطاعة ولي الأمر مطلقة، وإنما يقصد بها: المصلحة المترتبة عليها، وهي إقامة المصالح، وانتظام الحقوق، وبهذا أرشدتنا إلى طلب أصل ولايته. أما البغاة والعاصون، فقد أمر الإسلام بكفاحهم، وسلّ السيوف في وجوههم ما استطعنا لذلك سبيلاً، وأذن لنا بأن نجنح لسلمهم حينما نخشى فتنة أشد من محاربتهم، عملاً بقاعدة:"ارتكاب أخف الضررين"، والموازنة بين الضرر الذي نحتمله من ولايتهم، والفتنة التي نخشاها من محاربتهم يرجع إلى اجتهاد ذوي الخبرة بحقوق الأمة، ومبلغ قوتها، وعاقبة حربها أو مسالمتها.
فالوجه الفارق بين هذه المسألة وإطاعة أولي الأمر: أن المعنى الذي روعي في الأذن بمسالمة البغاة والعاصين لا يتحقق في البغي والعصيان حتى نذهب من الإذن بمسالمتهم إلى القول بمشروعيتهما، كما ذهبنا من الأمر بإطاعة صاحب الدولة إلى القول بوجوب ولايته.
ثم إن المؤلف عطف على هذه الأقيسة الخاطئة أمثلة أخرى، فقال: إن الله أمرنا بإكرام السائلين، والرحمة بالفقراء، ولم يكن هذا موجباً لأن يوجد بيننا فقراء ومساكين. وأمرنا أن نفك رقاب الأرقاء، ونعاملهم بالحسنى، ولم يدل ذلك على أن الرق مأمور به في الدين. وذكر الله الطلاق، والاستدانة والبيع والرهن وغيرها، وشرع له أحكاماً، ولم يدل ذلك بمجرده على أن
شيئاً منها واجب في الدين.
ولسنا في حاجة إلى مناقشة هذه الأمثلة بعد أن كشفنا لك عن وجه دلالة الأمر بإطاعة صاحب الدولة على حكم ولايته، وذلك الوجه من الدلالة لا يوجد في هذه الأمثلة، وما كان لها إلا أن تلف رؤوسها حياء، وتزدحم على باب هذا المبحث متسابقة إلى الخروج منه.