الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عادل" (1)، وحديث: "إنما الإمام جُنة يُقاتل من ورائه، ويُتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل، وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره، كان عليه منه" (2).
فهذه الأحاديث الواردة في أغراض شتى، وأسانيد مختلفة، وكلها تدور حول الإمام، فتبين مسؤوليته، وتأمر بالوفاء ببيعته، وإطاعته، وملازمته، وقتل من يحاول الخروج عليه، وتصف الأئمة، وتفرق بين خيارهم وشرارهم، هذه الأحاديث إذا وقعت في يد مجتهد يتبصر في حكمة أمرها ونهيها ووصفها، لا يتردد في أن الإمام أمر حتم، وشرع قائم، ولا يصح أن يكون هذا الحق إلا من قبيل الواجب.
فقول المؤلف: إن السنّة أهملت الخلافة، جراءةٌ يلبسها من خرج ليقطع الطريق في وجه الحقائق، حتى تدرج عليه الآراء الفجّة، وأوضاع التي لم تزل في طور التجربة والاختبار.
*
الإجماع والخلافة:
وأما الإجماع، فقد أريناك وجه حجيته فيما سبق، وبيّنا لك أنه دليل قاطع؛ لأن شواهده عدّة في دلائل الشريعة جاءت في موارد شتى من الكتاب والسنّة، وهذه الشواهد إن كان كل واحد منها يفيد ظناً راجحاً، فإن مجموعها يفيد علماً راسخاً، ونظيره التواتر في إفادة القطع، وهو مؤلف من أخبار آحاد لا يفيد كل واحد منها بانفراده شيئاً يتعدى مراتب الظنون.
وتقرير الإجماع في قضية الخلافة الذي لا يزال علماء الإسلام يلهجون
(1)"الموطأ بشرح الزرقاني"(ج 4 ص 169) طبع بولاق.
(2)
"مسلم"(ج 6 ص 17).
به جيلاً بعد جيل، أن الصحابة رضي الله عنهم عقب انتقال صاحب الرسالة - صلوات الله عليه - إلى الرفيق الأعلى، وقبل مواراة جثته الشريفة في قبره الكريم، بادروا إلى الائتمار بتعيين إمام، ولم يجر بينهم خلاف في حكم إقامته، وإنما تنازعوا في مبدأ المفاوضة شيئاً قليلاً في اختيار الشخص الكافي لهذا المنصب، ثم تضافروا على مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومن تخلف عن المبايعة لم يذهب إلى الخلاف في وجوب نصب الإمام، وإنما هي الموجدة؛ لعدم إيثاره بالإمارة، أو لإنجاز المبايعة دون حضوره، وقبل أخذ رأيه في جملة المؤتمرين، وكذلك كان شأنهم في الاهتمام بأمر الخلافة لعهد سائر الخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ومن يتخلف عن بيعة خليفة، فلعذر يرجع إلى عدم وفاقه على بيعة الشخص المعين، ولم ينقل عن أحد أنه توقف في وجوب نصب الأمير العام، أو قال:"ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا، ولا لأمور دنيانا"، مع أن المحدثين والمؤرخين ينقلون ما يدور في المحاورة بين أهل الحل والعقد، وما يقع من وفاق، وما يصدر عنهم من أقوال وآراء، ليس لها أهمية إزاء القول بعدم وجوب نصب الإمام، لو خطر على قلب رجل منهم.
ومن الباطل أن يقال: إنما سكتوا عن إبداء رأيهم في وجوب الخلافة رهبة من القوة المسلحة، فإن العصر الذي صدع فيه عبد الرحمن الأصم، ونجدة بن عامر بعدم وجوب نصب الإمام، لم تكن حرية الرأي، ولا سعة صدر السياسة فيه بأحسن حالاً من العهد الذي يقوم فيه الرجل، ويجابه الخليفة بقوله: لو رأينا فيك اعوجاجاً، لقوّمناه بسيوفنا.
قال المؤلف في (ص 33): "نعم، بقي لهم دليل آخر لا نعرف غيره، هو آخر ما يلجؤون إليه، وهو أهون أدلتهم وأضعفها. قالوا: إن الخلافة
تتوقف عليها إقامة الشعائر الدينية، وصلاح الرعية إلخ. المعروف الذي ارتضاه علماء السياسة: أنه لا بدّ لاستقامة الأمر في أمة متمدنة، سواء كانت ذات دين، أم لا دين لها، وسواء كانت مسلمة أم مسيحية أم يهودية، أم مختلطة الأديان، لا بد لأمة منظمة، مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها ولسانها، من حكومة تباشر شؤونها، وتقوم بضبط الأمر فيها، وقد تختلف أشكال الحكومة وأوصافها بين دستورية واستبدادية، وبين جمهورية وبلشفية، وغير ذلك".
الدليل المشار إليه يرجع إلى قاعدة قائمة على رعاية المصالح، وهي قاعدة قطعية؛ لأنها منتزعة من أصول وأحكام مبثوثة في الكتاب والسنّة، وقد أقامه العلماء في مناظرة النفر الذين خالفوا في نصب الإمام، ذاهبين إلى أنه لا تجب إقامة حكومة. ولا شك أن هذا الدليل ينسف مذهبهم نسفاً، ولو خالف في شكل الحكومة مخالف، لأفصح عن رأيه، ولكان لأهل العلم معه موقف غير الموقف الذي نراه في علم الكلام.
فالدليل بالنظر إلى مذهب الخصم الذي كانوا يجادلونه به، حجة ساطعة، وليس بالدليل الهين، ولا الضعيف، ولكن المؤلف لا يضبط وجه البحث، ولا يحدُّ موضوعه حداً بيناً، فيقع فيما لا يقع فيه الكرام الكاتبون.
قال المؤلف في (ص 34): "ولعل أبا بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - إنما يشير إلى ذلك الرأي حينما قال في خطبته التي سبقت الإشارة إليها: لا بد لهذا الدين ممن يقوم به".
صدرت هذه المقالة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبويع عقبها بالإمارة العامة، وتسمّى خليفة، وسار في حكومته
على منهج مطابق لمقاصد الشريعة، فالظاهر الجليّ أن مقالته إنما تفسر بمن يبايع على أن يحرس الدين، ويقيم مصالح الدنيا، ويراعي في أحكامه نصوص الشريعة وقواعدها العامة. أما الحكومة الاستبدادية أو البلشفية وما شاكلها، فما كان لأبي بكر الصديق أن يعدها فيما يقوم بدين الله. وسنبحث بعد هذا في شكل الحكومة الذي لا يخالف مقصد الشريعة من إقامة الخلافة.
قال المؤلف في (ص 34): "ولعل الكتاب الكريم ينحو ذلك المذهب أحيانا".
يريد المؤلف: أن القرآن ينحو نحو ذلك الرأي، وهو أنه لا بد لكل أمة من نوع ما من أنواع الحكم، قال هذا بعد أن فصل أشكال الحكومة إلى دستورية واستبدادية، وجمهورية وبلشفية، وغير ذلك. وليس بالعجيب من المؤلف أن يزعم أن القرآن يذهب إلى إقامة حكومة ما، وسواء بعد ذلك أن تكون دستورية أو استبدادية، جمهورية أو بلشفية، وغيرها، فإنه سيجابهك في غير خجل بأن الخطط السياسية من خلافة وقضاء وغيرهما لا شأن للدين بها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم.
فعلى فرض أن يكون زمام أمرنا في يد المؤلف ومن يشاكله في التفكير، ويقع اختيارهم على شكل الحكومة البلشفية، فإن القرآن -بمقتضى زعم المؤلف- يأذن لنا بأن نمد لهم رقابنا خاضعين، ونكون لحكومتهم البلشفية أو اللادينية من الخادمين!!
قال المؤلف في (ص 35): "إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة، كان صحيحاً ما يقولون من أن إقامة الشعائر الدينية، وصلاح الرعية، يتوقفان على الخلافة، بمعنى الحكومة،
في أي صورة كانت الحكومة، ومن أي نوع: مطلقة، أو مقيدة، فردية، أو جمهورية، استبدادية، أو دستورية، أو شورية، ديمقراطية، أو اشتراكية، أو بلشفية".
لا يحق لعالم شرعي أن يقسم الحكومات إلى أقسام يذكر فيها المطلقة والمستبدة والبلشفية، ويجعلها من الأشكال التي يصح حمل كلام الفقهاء في الإمامة والخلافة عليها.
أما المطلقة، فكل من ينتمي للإسلام يعلم أن الحكومة الإسلامية مقيدة بقانون كتاب الله، قال الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقال صلى الله عليه وسلم:"ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له، وأطيعوا (1) ".
وأما المستبدة، فينبذها وراء ظهورنا قولهُ تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، والفقهاء يتلون هذه الآية، ويقررون قاعدة الشورى، ويبحثون عن أسرارها بما فيه كفاية.
وأما البلشفية، فإنها مذهب قائم على إبطال الملكية الفردية، وجعل الزراعة والصناعة والتجارة مشاعة بين الناس، وأن يجري هذا التقسيم بمقتضى قانون عام، ثم هي ترمي إلى قلب نظم سائر الحكومات أنَّى كانت. وهذا المبدأ الذي يناقض مبادئ الإسلام، يبرأ الفقهاء إلى الله من أن يكون شكلاً للحكومة الإسلامية، ويعدون تأويل كلامهم في الإمامة والخلافة -على صحة إرادة هذا الشكل ونحوه- رمياً للكلام على غير روية، وطعناً
(1)"مسلم"(ج 6 ص 15).