الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاضمحلال، واستبداد ملوك العجم على الخلفاء (1).
فالحق أن ما قرره ابن خلدون من أن الملك لا يحصل إلا بالقهر والغلبة، لا يجري في الخلافة؛ فإنها قامت في عهد الخلفاء الراشدين على البيعة الاختيارية، والمؤلف نفسه تعاصت عليه الأدلة، وخانته الشبه، فلم يستطع أن يأتي بدليل أو شبهة على أن الخلافة في سائر أطوارها لم تقم إلا على القهر والغلبة.
*
نظام الملكية لا ينافي الحرية والعدل:
قال المؤلف في (ص 27): "وطبيعي في الأمم المسلمة بنوع خاص: أن لا يقوم فيهم ملك إلا بحكم الغلب والقهر أيضاً".
يذهب المؤلف إلى أن نظام الملكية لا يقوم بين المسلمين عن اختيار منهم، وزعم أن مبادى" الحرية والإخاء والمساواة التي جاء بها الدين، تقتضي أن لا يقوم فيهم ملك إلا بالقهر والغلبة.
والحكومة -في تقسيم أرسطو (2) - إما ملكية، أو أرستقراطية، أو شعبية. وكل واحد من هذه النظم إما طبيعي، وهو ما يعمل لخير الأمة، أو جائر، وهو ما يتصرف في شؤونها بغير حكمة.
فالملكية عند أرسطو قد تسير على منهج من العدل والنصح للرعية.
وقسم (منتسكيو)(3) الحكومة إلى: جمهورية، وملكية، واستبدادية،
(1)"مقدمة"(ص 163) طبعة بولاق.
(2)
أرسطو أو أرسطاطاليس (384 - 322 ق. م) فيلسوف يوناني.
(3)
كاتب فرنسي في الاجتماع والسياسة (1689 - 1755 م) من كتبه: "روح الشرائع".
والفرق بين الملكية والاستبدادية: أن الأولى تكون السلطة فيها بيد فرد يحكم بمقتضى قوانين مقررة، والأخرى لا يرتبط الحاكم فيها بقانون ولا عُرف، بل يدير زمامها على ما يشاء ويهوى. فالملكية عند (منتسكيو) تخالف الاستبدادية.
فالواجب إذاً على المؤلف أن يبين ماذا يريد من الملك؛ فإن الحكومة التي يرأسها فرد إذا كانت تعمل على طريق الحزم والشريعة العادلة، لم نجد في مبادئ الإسلام ما يمنع من الإذعان لها، والنصح في مؤازرتها.
قال المؤلف في (ص 27): "من الطبيعي في أولئك المسلمين الذين يدينون بالحرية رأياً، وشملكون مذاهبها عملاً، ويأنفون الخضوع إلا لله رب العالمين، ويناجون ربهم بذلك الاعتقاد في كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل، في خمسة أوقاتهم للصلاة، من الطبيعي في أولئك الأباة الأحرار أن يأنفوا الخضوع لرجل منهم أو من غيرهم، ذلك الخضوع الذي يطالب به الملوك رعيتهم، إلا خضوعاً للقوة، ونزولاً على حكم السيف القاهر".
يقول الكواكبي في "طبائع الاستبداد"(1): "بني الإسلام، بل كافة الأديان على: لا إله إلا الله، ومعنى ذلك: أنه لا يعبد حقا سواه؛ أي: سوى الصانع الأعظم، ومعنى العبادة: التذلل والخضوع، فيكون معنى لا إله إلا الله: لا يستحق التذلل والخضوع شيء غير الله، فهل -والحالة هذه- يناسب المستبدين أن يعلم عبيدهم ذلك، ويعملوا بمقتضاه؟ كلا ثم كلا
…
ولهذا ما انتشر نور التوحيد في أمة قط إلا وتكسرت بها قيود الأسر".
(1) عبد الرحمن بن أحمد الكواكبي (1265 - 1320 هـ = 1849 - 1902 م) كاتب وأديب، ولد في حلب، وتوفي بالقاهرة.
حق ما يقول الكواكبي، ثم ما يقول المؤلف من أن الإسلام يرفع همم أتباعه، ويزكي نفوسهم من الخضوع إلى رجل منهم، أو من غيرهم، متى حاول اضطهادهم أو العبث بحقوقهم.
أما إذا عرفوا من الرئيس المسلم عدلاً واستقامةً، فإنهم يبذلون له حسن الطاعة، ويمحضون له النصيحة، ويكون صعوده على عرش الخلافة برضا واختيار منهم، وليس في هذا غضاضة على ما أُشربوه في قلوبهم من مبادئ الحرية والمساواة، وإخلاص العبودية لله، فإن الذي لقنهم الحرية والمساواة، وأمرهم بالإخلاص في توحيده، هو الذي قال لهم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
ثم إن الرعية التي كان يسوسها عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز كانت تمد رقابها إلى أميرها طائعة، ولم تفقد شيئاً من حريتها، ولا إخلاص العبادة لخالقها.
قال المؤلف في (ص 28): "إنما الذي يعنينا في هذا المقام: هو أن نقرر لك: أن ارتكاز الخلافة على القوة حقيقة واقعة، لا ريب فيها. وسيان بعد ذلك أن يكون هذا الواقع المحسوس جارياً على نواميس العقل، أم لا، وموافقاً لأحكام الدين، أم لا".
ملأ المؤلف آذاننا بكلام يدور على أن الخلافة والملك لم يرتكزا إلا على القوة والرهبة، ثم انقلب إلى حرفة التشكيك، الذي آلى على نفسه أن لا يخرج بنا من بحث حتى يحاول أن يفتننا به مرة أو مرتين.
ونحن نلفت النظر عن الرأي المطوي في صدر المؤلف، ونلقي الكلمة الفاصلة فنقول: إن ارتكاز البيعة على القوة والسلطان، دون أن يكون لأهل
الحل والعقد فيها اختيار، غير جار على نواميس العقل، ولا موافق لما أرشد إليه الدين، وكذلك الدين والعقل السليم لا يختلفان في حكم.
أما استناد الخلافة بقوة الجند والسلاح بعد قيامها على قاعدة اختيار الأمة، فأمر ينطبق على قوانين العقل بغير تردد، وحق تهدي إليه الشريعة بحثّ وتأكيد؛ فإن القصد من إقامة السلطان كفّ الأيدي العادية على الحقوق، فوجب إعداد القوة من جند وسلاح لمكافحة الأعداء والبغاة، وحماية حرم الشريعة من أن تعبث بها يد آثمة، أو نفس ماردة.
وعلى الأمة اليقظة أن تتخذ من التدابير ما يمكنها من مشاركة الخليفة في تصريف هذه القوة المسلحة، حتى إذا خاب ظنها فيه، وأخذه الاستبداد بالإثم، وجدت الطريق إلى اتقاء بأسه وكف يده أمراً ميسوراً.
قال المؤلف في (ص 28): "لا معنى لقيام الخلافة على القوة والقهر، إلا إرصادهما لمن يخرج على مقام الخلافة، أو يعتدي عليه، وإعداد السيف لمن يمس بسوء ذلك العرش، ويعمل على زلزلة قوائمه".
لا بد للخلافة من أن تتقلد سيفاً وترتدي بإرهاب؛ "لتتقي خطر عدو هاجم أو متحفز، وتقمع شر من يثير فتنة يضطرب لها نظام الأمن والسلام، وقد أتى عليها حين من الدهر وهي لا تنتضي حسامها، ولا تلمع بإنذارها ووعيدها إلا في وجه عدو يتربص بالمؤمنين الدوائر، أو ثائر عصفت به ريح الأهواء، وما له في أولي الألباب من ولي ولا عاذر، وأدركها زمن بعدت فيه عن حقيقتها، فخلطت عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وربما كان إثمها في بعض الأحيان أكبر من نفعها، وليس إصلاح شأنها وإعادتها إلى سيرتها المثلى ممن يغارون على مصلحة الشرق واتحاد شعوبه ببعيد.