الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا توجد بعد النبي زعامة دينية. وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك، فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلاً بالرسالة، ولا قائماً على الدين. هو إذن نوع لا ديني. وإذا كانت الزعامة لا دينية، فهي ليست شيئاً أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية، زعامة الحكومة والسلطان، لا زعامة الدين، وهذا الذي قد كان".
*
حكومة أبي بكر وسائر الخلفاء الراشدين دينية:
هذه حلقة من سلسلة الآراء التي يسطو بها المؤلف حول شريعة الإسلام؛ ليزيحها من المحاكم، ومن مظاهر الدولة، حتى لا يرى للسياسة العفيفة وجهاً، ولا للإباحية المتهتكة زاجراً.
ذهب إلى أن التنفيذ غير داخل في وظيفة الرسول عليه السلام السماوية، وأنه لم يكلف بأن يحمل الناس على ما جاءهم به، وترامى في هذه الجمل على حكومات الخلفاء الراشدين، يطعن في عفافها، ويقذفها بسنة اللادينية.
هل للمؤلف أن يغسل قلمه من المواربة، ويحدثنا عن قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، وقوله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ} [النور: 2]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، ويدلنا على المكلف بتنفيذ هذه الأحكام؟.
ليس بجائز -في نظره- أن يكون المكلف بتنفيذها الرسول عليه السلام؛ لأنه "لم يكلف شيئاً غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس
بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه".
ثم هو ينفي أن يكون المكلَّفُ بتنفيذها ملوك العرب: أبا بكر، وعمر، وخلفاءهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه". وحكومات أولئك الملوك "نوع من الزعامة جديد، ليس متصلاً بالرسالة، ولا قائماً على الدين، هو إذن نوع لا ديني".
ولعله يجيب: بأن الخطاب بها مصروف إلى الأمة، وأنها تتولى دون أولئك الملوك إقامة هذه الحدود على أولئك الجناة، وهي فوضى لا يرضى عنها المستر "أرنولد"، ولا الفيلسوف "لك".
ولم يبق للمؤلف مخلَص سوى أن يقول: إن هذه الآيات نزل بها الأمين على أكمل الخليقة؛ ليتهجد بها الناس، وليرتلوها ترتيلاً! ..
استهتر المؤلف بمبدأ اللادينية، ولم يقنع بأن يجاهد لإعلاء كلمته في الحاضر والمستقبل، حتى صعد نظره إلى الحكومة النبوية، وحكومة الخلفاء الراشدين، فرمى الأولى بما رمى، وحاول أن ينزع عن الثانية لباس التقوى، والله يشهد أن أولئك القوم بآياته يوقنون.
كانت حكومة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حكومة إسلامية، تحكم بما أنزل الله، وتسير في سياستها على السبيل التي رسمتها حكمته البالغة، والأدلة على ذلك كثيرة، ولنكتف منها بالكتاب العزيز، والتاريخ الصحيح.
أما الكتاب، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، وفي هذا دليل واضح على أن حكومة أبي بكر رضي الله عنه لم تكن من نوع اللاديني؛ إذ الحال الذي ينطبق عليه معنى الآية إنما وقع في عهد خلافته، فإن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم أبو بكر بمن معه من الصحابة الأكرمين، وقد أخبر الله تعالى أنه يحبهم، وشهد لهم بأنهم يحبونه، ولو كان يحكم بغير ما أنزل الله، لكان ظالماً، أو فاسقاً، والله لا يحب الظالمين، ويبغض الفاسقين. وليس لأحد ادعاء أن الآية مسوقة في غير المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن تاريخ الإسلام لم يقصّ علينا أن قوماً قاتلوا المرتدين الموجَّه إليهم خطاب هذه الآية غير أبي بكر وجنده الغالبين.
ومما يشهد بأن حكومة الخلفاء الراشدين دينية إسلامية: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16].
فإن قوله: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} كلام لم يعين فيه "الفاعل الداعي لهم إلى القتال، فدل القرآن على وجوب الطاعة لكل من دعاهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد، يقاتلونهم أو يسلمون، ولا ريب أن أبا بكر دعاهم إلى قتال المرتدين، ثم قتال فارس والروم، وكذلك عمر دعاهم إلى قتال فارس والروم، وعثمان دعاهم إلى قتال البربر ونحوهم، والآية تتناول هذا الدعاء كله"(1).
"فإن قال قائل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دعاهم، قيل له:
(1)"منهاج السنّة"(ج 4 ص 278).
قال الله تعالى: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83]، فأخبرهم أنهم لا يخرجون معه أبداً، ولا يقاتلون معه عدواً (1) ".
فانظر كيف أوجب الله طاعتهم، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فهو ظالم، أو كافر، والله لا ينزل قرآناً في إطاعة الظالمين أو الكافرين.
وأما التاريخ الصحيح، فهذه سيرة الخلفاء الراشدين محفوظة في الكتب الموثوق بروايتها، فلا تراها إلا شاهدة بأن الخليفة كان يحكم بالكتاب والسنّة، ولا يرجع إلى اجتهاد رأيه إلا إذا أعوزه الدليل منهما، في "صحيح البخاري":"كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء في الأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنّة، لم يتعدوه إلى غيره؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم".
وقال أبو عبيد في كتاب "القضاء": "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم، نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به، قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله، نظر في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد فيها ما يقضي به، قضى به، فإن أعياه ذلك، سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنّة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤساء الناس، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء، قضى به، وكان عمر يفعل ذلك (2) "!
وتجد هذه السنّة في وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شريح حين ولاه
(1)"أحكام القرآن" للجصاص (ج 2 ص 445).
(2)
"إعلام الموقعين"(ج 1 ص 75).