الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من برهان أو إقناع.
وأما الشرائع والنظم الاجتماعية، فإن التجربة في القديم والحديث دلت على أنها لا تقوم في أمة، ولا يطّرد نفاذها، إلا أن تكون شدة البأس بجانبها، والسيوف من ورائها، فلا بد للإسلام من دولة ذات شوكة؛ لتقوم على إجراء هذه الشرائع والنظم، وتحول بينها وبين قوم لا يبصرون.
ثم إن ظهور الحق بمظهر العزة والمنعة مما يجذب إليه النفوس، ويحبب إليها التقرب منه، وربما انقلبت إلى تأييده بعد أن كانت من خصومه الألداء، فلا بد أيضاً من بسط ظلّ الإسلام وإعلاء رايته على دائرة واسعة من البسيطة، حتى لا تكون فتنة، وحتى يدرك المخالفون الذين يقيمون تحت سلطانه أنه دين التوحيد الخالص، والشريعة القيمة، والآداب السامية، فيعتنقونه عن عقيدة صادقة، ونفس راضية، وكذلك كان أثر الجهاد في البلاد التي انقلبت إسلامية في عقائدها وآدابها وسائر شؤونها الاجتماعية.
*
خطأ المؤلف في الاستدلال بآيات على أن الجهاد خارج عن وظيفة الرسالة:
قال المؤلف في (ص 53): "وما عرفنا في تاريخ الرسل رجلاً حمل الناس على الإيمان بالله بحد السيف، ولا غزا قوماً في سبيل الإقناع بدينه، وذلك هو نفس المبدأ الذي يقرره النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يبلغ من كتاب الله. قال الله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وقال:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22]، وقال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]. {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. تلك مبادئ صريحة في أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كرسالة إخوانه من قبل إنما تعتمد على الإقناع والوعظ".
من الجلي الواضح: أن الرسول لا يغزو قوماً في سبيل الإقناع بدينه؛ فإن للحجَّة عملاً لا يقوم به السيف، كما أن للسيف عملاً لا تنهض به الحجّة، فالحجّة تلج بالعقيدة إلى أعماق القلوب، وهذا عمل لا تنهض به السيوف وإن كانت مشرفية، ولا الرماح وإن كانت سمهرية، والسيف يحمل الناس على الشرائع واحترام النظم الاجتماعية، وهو عمل قد تذهب الحجّة دونه ضائعة، وإن لبست بردة الفصاحة من منطق سَحبان، أو قلم الفتح بن خاقان.
فالجهاد لا يقصد به نقل القلوب من الضلال إلى الهدى، وإشرابها الإيمان في الحال، وعدمُ إمكان هذا المعنى لا يمنع من أن يراد من الجهاد النبوي قبل شرع الجزية: كفُّ أذى القبائل المشركة العاثية في الأرض فساداً، وإلباسها ثوب الإسلام -ولو في الظاهر- لتدخل في نظام وشريعة، ويرجى منها بعد مشاهدة أنوار النبوة مرة بعد أخرى أن تدرك الحق حقاً، فينقلب جهلها علماً، ونفاقها إيماناً، وتستنير صدورها كما صلحت ظواهرها.
والجهاد لهذا القصد يلتئم مع قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فإن الجهاد الذي يساق به الوثنيون إلى الإسلام يقصد به: إصلاح ظواهرهم، والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، يقصد به: إخراج القلوب من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان.