الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها"
زعم المؤلف أن ذلك القول ينافي معنى الرسالة، ولا يتلاءم مع مقتضى طبيعة الدعوة، وهذا الزعم ينافي الواقع، ولا يتلاءم مع ما تقضي به طبيعة البحث المنطقي.
أما منافاته للواقع، فإن الله تعالى أمر رسوله بإبلاغ الناس قوله تعالى:{وَءَاتَوُاْ اَلزَّكوةَ} [التوبة: 11]، وقال له:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وأما عدم ملاءمته لمقتضى البحث المنطقي، فإن التنافي يرادف التناقض، والمعنى: أن القول بأن الإسلام تبليغي وتطبيقي يقتضي نفي معنى الرسالة، ومعنى الرسالة يقتضي نفيه، وهذا الحكم غير صحيح؛ إذ لا يصح إلا إذا كان في معنى التبليغ والتنفيذ ما يجعلهما متنافيين، والمعقول أنهما ليسا بمتنافيين، ولا أن الجمع بينهما يعود بخلل عليهما، أو على أحدهما، وهل من عقل يشعر بتناقض في قولك لشخص: بلغ بني تميم أن يتعلموا المنطق حتماً، ومن رأيته يخرج في كلامه عن قانون المنطق، فقوّمه بالتي هي أحكم، حتى تحمله على طريقة التفكير الصحيح.
*
وجه قيام التشريع على أصول عامة:
قال المؤلف في (ص 57): "إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسس دولة سياسية، أو شرع في تأسيسها، فلماذا خلت دولته إذن من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم؟ ولماذا لم نعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ ولماذا ولماذا؟! نريد أن نعرف منشأ ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام، أو اضطراب،
أو نقص، أو ما شئت فسمّه، في بناء الحكومة أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان ذلك؟ وما سرّه؟ ".
ألقى المؤلف هذا الشبه، وهو يحسبها قذائف تهدم حصون الدولة الإسلامية، ولا إخالها تنشب بذهن مسلم وقف على شيء من حكمة التشريع، ووزن أقدار الصحابة رضي الله عنهم كل بالقسطاس المستقيم، وإن شئت جواباً قريب المأخذ، وجيزَ القول، فإليك الجواب:
عنيت الشريعة -في الأكثر- بتفصيل ما لا تختلف فيه مصالح الأمم، ولا يتغير حكمه بتغير الزمان والمكان، وذلك ما يرجع إلى العقائد والأخلاق ورسوم العبادات، ثم جاءت إلى قسم المعاملات والسياسات، فأتت على شيء قليل من تفاصيله، وطوت سائره في أصول عامة لحكم ثلاث:
إحداها: أن أحكام هذا القسم تختلف بحسب ما يقتضيه حال الزمان وتطور الشعوب، فإذا وقعت الواقعة، أو عرضت الحاجة، نظر العالم في منشئها، وما يترتب عليها من أثر، واستنبط لها حكماً بقدر ما تسعه مقاصد الشريعة ومبادئها العليا.
ثانيتها: أن وقائع المعاملات والسياسات تتجدد في كل حين، والنص على كل جزئية غير متيسر، علاوة على أن تدوينها يستدير أسفاراً لا فائدة للناس في كلفة حملها.
ثالثتها: أن الشريعة لا تريد أسر العقول وحرمانها من التمتع بلذة النظر والتسابق في مجال الاجتهاد.
فإذا كانت الأحكام والنظم تُفصل على ما يقتضيه حال الشعوب، وكانت وقائع المعاملات والسياسات لا تنقضي، وكان شارع الإسلام يراعي حق
العقل، ولا يريد حصره في دائرة ضيقة، فهل من العقل أو من الصواب أن يقول قائل: لماذا لم يتحدث النبي صلى الله عليه وسلم إلى رعيته في نظام الملك، وفي قواعد الشورى؟
إن هذا السؤال لا يصدر من سليم الطوية، إلا إذا فاته أن يدنو من روح التشريع، ولم يكن من أصول الدين على بينة، فإن الشريعة ترشد إلى المصالح، وتأمر بالقيام بها، ثم تترك وسائل إقامتها على الوجه المطلوب إلى اجتهادات العقول.
قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب "الموافقات": "كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقاً غير مقيد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص، فهو راجع إلى معنى معقول وُكِل إلى نظر المكلف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى
…
وكل دليل ثبت فيه مقيداً غير مطلق، وجعل له قانون وضابط، فهو راجع إلى معنى تعبدي، لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وُكِل إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها، فضلاً عن كيفياتها".
ولنضرب المثل لهذه السنّة الشرعية بقاعدة الشورى نفسها: فالإسلام أرشد إلى الشورى بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقصد إلى إقامتها على وجه ينفي الاستبداد، ويجعل الحكام لا يقطعون أمراً حتى تتناوله آراء أهل الحل والعقد، وأبقى النظر في وسائل استطلاع الآراء إلى اجتهاد أولي الأمر، وإلى ألمعيتهم، فهم الذين يدبرون النظم التي يرونها أقرب وأكمل، فيستطلعون الآراء باقتراع سري أو علني، بالكتابة أو برفع الأيدي أو بالقيام، ولهم النظر في تعيين من يستفاد من آرائهم وكيفية انتخابهم.