الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن مثل هذه النصوص تعلم أن أخذ الأمم الإسلامية بحكومة واحدة يقتضي توحيد قانونها السياسي أو القضائي، بل يوكل أمر كل شعب إلى أهل الحل والعقد منه، فهم الذين ينظرون فيما تقتضيه مصالحه، ولا يقطعون أمراً حتى يشهدهم من أوتوا العلم بأصول الشريعة؛ لئلا يخرجوا عن حدود مقاصدها.
*
الاجتهاد في الشريعة وشرائطه:
ومن أجل ما لوحت إليه الشريعة؛ من بناء الأحكام على أساس رعاية المصالح، ذكر الفقهاء في شروط الحاكم أن يكون بالغاً رتبة الاجتهاد.
ومدار شرائط الاجتهاد على أمرين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة، وهذا يتحقق بمعرفة جملة القواعد التي نصبتها، والتفقه في قسم عظيم من الأبواب التي فصلت أحكامها، وقد بصر مجتهدو الصحابة رضي الله عنهم بهذه القواعد والأحكام من النظر في القرآن، وما يشهدون من سنّة الرسول- عليه الصلاة والسلام، وتلقى عنهم التابعون ما استنبطوه من الفروع، وتعلموا منهم كيف انتزعوها من مآخذها، فازدادت القواعد وضوحاً، وتمهدت طرق الاستنباط، وتسنى للذين أوتوا العلم من بعدهم أن ينظروا في الحوادث، ويفصلوا لها أحكاماً تأخذ بمجامع المصالح، وتنطبق على ما تستدعيه طبيعة الزمان والمكان.
ثانيهما: القدرة على انتزاع الأحكام من دلائلها المبثوثة في الكتاب والسنّة، ولا سبيل للقدرة على الاستنباط إلا بمعرفة هذه الدلائل، وطريق إثباتها، وضروب دلالتها، وتفاوت مراتبها، ووجوه الترجيح عند تعارضها.
والتحقيق: أن الاجتهاد لا يتجزأ، فإن أكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها
ببعض، فمن أحرز الشروط المشار إليها آنفاً، تمكن من الاستنباط في كل حادثة تعرض له، وإن فاته بعضها، أو كان نصيبه منه أقل من المقدار الكافي، لم يستطع أن يستنبط للواقعة حكماً تطمئن له نفسه، أو يثق به غيره.
فمن أدركه النقص من جهة التفقه في مقاصد الشريعة وعدم إحكام قواعدها، فلا يصح له الاجتهاد، ولو في المسائل التي يجد لها بين الدلائل اللفظية منزعاً؛ فإن القواعد القطعية قد تدعو إلى التصرف في أقوال الشارع بنحو تخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو عدم الأخذ بالمفهوم.
وكذلك من عرف مقاصد الشريعة، وأنس من نفسه القدرة على إلحاق الوقائع بأشباهها، ولكنه لم يصل في معرفة اللسان العربي إلى المرتبة الكافية للاستنباط، فاجتهاده غير موثوق به؛ إذ يشترط في المجتهد أن يكون عارفاً بأحوال الأحكام عن نظر مستقل، وتلك الأحوال مبثوثة في موارد الشريعة، فلا بدّ من رسوخ القدم في فهم تلك الموارد، ومعرفة وجوه دلالتها.
فالتشريع الإسلامي قائم على رعاية المصالح، وما هي إلا المصالح التي توضع في ميزانه المستقيم، وهذا الميزان المستقيم لا يبخس شعباً من الشعوب مصلحته التي يشهد بها العقل السليم، ولا يفصّل حكماً واحداً يجريه على كل شعب وفي كل زمان، إلا إذا لم تختلف فيه مصالح الشعوب، فإن اختلفت اختلافاً يعقله العالمون، فلكل شعب حكم وسياسة، وذلك تقدير العزيز العليم.
فمن يذهب إلى أن أخذ العالم بحكومة واحدة، وجمعه تحت سياسة مشتركة خارجٌ عن طبيعة البشر، إنما هو مثال الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة، ولم يرفعوا رؤوسهم إلى الكتب التي أمتعت البحث عن أسرار