الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن لم يكن مطلعاً على شيء من أصول الشريعة أو فروعها.
إذن، فالنبي صلى الله عليه وسلم قام بوظيفته السماوية التي هي إبلاع ما أنزل إليه، وتنفيذ ما جاء به من أوامر ونواه، ولم يبق سوى أن يقال: لماذا لم يقم بذلك الأمر الذي هو خارج عن وظيفته السماوية؛ بأن يكلف ذوي الخبرة بإصلاح شأن التجارة والزراعة والصناعة؟
وجواب هذا السؤال: أن ما كان بين أيدي الأمة من هذه الوسائل كان ملائماً لمظاهر حياتهم البسيطة، وكافياً لسد حاجاتهم، وإحرازهم القوة التي تجعلهم في منعة من أعدائهم، ثم إن الحروب لم تزل -منذ طلع كوكب الدولة- حاملة أوزارها، فلم يأخذ القوم خلالها مهلة ينصرفون فيها إلى النظر في شأن الزراعة ونحوها، ولا سيما إذ كانت قلة عددهم بالنسبة لأعدائهم المتألبين عليهم من كل جانب، تضطرهم إلى أن يكون شبابهم وكهولهم وشيوخهم يتقلدون السلاح، ويظلون على أهبة القتال، بكرة وعشياً.
فالمؤلف رمى بنفسه في هذا البحث، وهو غير واقف على روح التشريع، ولا على طبيعة حال الأمة لعهد النبوة، فكان فيما نال به جانب الحكومة النبوية من المسرفين.
*
التشريع الإسلامي والأصول السياسية والقوانين:
قال المؤلف في (ص 84): "ولكنك إذا تأملت، وجدت أن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين؛ من أنظمة، وقواعد، وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وهو بعد إذا جمعته، لم يبلغ أن يكون جزءاً يسيراً مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين".
تهافتت على المؤلف هذه الخواطرة لقلة تفقهه في الشريعة، وعدم وقوفه على تاريخ عهد النبوة وقوفَ الباحث البصير، وحذراً من أن تستدرج هذه الفقرة نفراً ينصتون لها على غير هدى، أسوق كلمة مقتصدة، يلقي عليها القارئ نظرة واحدة، فيشهد من روح التشريع، وتاريخ السياسة النبوية ما تتساقط عنده تلك الشبه صرعى، ويتسلل منه ذلك الرأي لواذاً.
لنبحث عن مبادئ الشريعة الاجتماعية السياسية، منذ طلعت إلى أن أغلق باب الوحي، ونعرّج على نبذة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في تدبير شأن السياسة؛ حتى تعلم أن الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم لم يخطئوا في فهم الدين، ولم يتفقوا على ضلالة.
نزل القرآن في نحو عشرين سنة، وكان معظم ما نزل بمكة إنما هو كليات الشريعة؛ من تقويم العقائد، وإصلاح الأخلاق والعادات، فتجد السور المكية طافحة بالدعوة إلى الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وإقامة الحجج على ذلك، ودفع شبه الجاحدين، والأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، والاعتبار بقصص الأمم الخالية، ثم الإرشاد إلى مكارم الأخلاق؛ من نحو العدل والصدق والحلم والعفو والصبر، والوفاء بالعهد، وحسن الإخاء، وبر الوالدين، وإنفاق المال في طريق الخير، وإيفاء الكيل والميزان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإباية الضيم المنبه عليها بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39].
وهناك تجد محاربة المزاعم الباطلة، والعادات السمجة، والنهي عن البغي وقتل النفس والزنى، والتطفيف في الكيل والوزن، والخيلاء والإعجاب بالنفس، والرياء والكذب، والقول على الله بغير علم. كل ذلك تراه مصوغاً
في أساليب تلذ الفطر السليمة مذاقها، وتلين القلوب القاسية لجزالتها، وشرع في أثناء ذلك أهم ركن في العبادات، وهي الصلاة، ثم بعض الأحكام الراجعة إلى قسم العادات؛ كبيان ما يحلّ أكله، وما هو حرام، وألقى في النفوس أن الشريعة تمشي بالناس على الطريقة الوسطى، فنزلت آيات في التذكير بنعم هذه الحياة، وأخرى في إباحة الأخذ بزينتها والتمتع بطيباتها. وهنالك وضعت القاعد؛ الاجتماعية السياسية، وهي قاعدة الشورى، ونزل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38].
ويمثل هذه التعاليم الباهرة، والآداب الساطعة، تألف حول مقام الرسالة قوم يخالفون سائر القبائل العربية بعقائدهم وأخلاقهم وآدابهم، وكثير من عاداتهم، وأصبحوا بين يدي واعظ الإسلام آذاناً صاغية، ونفوساً لينة، يقف فيقفون، ويسير فإذا هم على أثره مقتدون.
ويعد هجرة صاحب الرسالة - صلوات الله عليه - إلى المدينة المنورة، جعل الوحي السماوي يشرّع ما بين الوعظ والتذكير أحكاماً عملية، وأصولاً اجتماعية، تلك الأحكام والأصول التي لا يسنّها إلا من قصد إلى بناء دولة تسلك في قضائها وسياستها شرعة خاصة، فترى في السور المدنية عقوبة السارق، والزاني، والقاذف، والساعي في الأرض فساداً، وآيات الجهاد، والقضاء العادل، وما يستند إليه من بينات، ثم الإرشاد إلى أصول المعاملات؛ مثل: البيع والقرض والرهن والوصية والتوكيل والحجر على القاصرين من سفيه أو يتيم، ثم أحكام النكاح والطلاق والخلع والنفقات والمواريث والإصلاح بين الأفراد والجماعة، ثم المعاهدات التي تعقد بين المسلمين وغير المسلمين، وهنالك شرعت الزكاة والجزية، وهي أموال تصرف في
حاجات ومصالح يجب على الرئيس الأعلى النظر في شأنها، وهنالك فرض الحج، ومن حكمه التعارف والنظر في شؤون الأمم الإسلامية قاطبة.
وتجد في السنّة النبوية التي لا يملك المؤلف، ولا غير المؤلف أن ينازع في صحتها: أصول الشركة، والشفعة، والقسمة، والمزارعة، وإحياء الموات، والهبة، والفلس، إلى ما عدا ذلك مما هو بيان لبعض ما أجمله الكتاب العزيز في تلك الأبواب وغيرها.
ومن بعد نصّ الكتاب السنّة، تلك القواعد التي ساقنا البحث إلى التنبيه عليها فيما سلف، فإنها تتعرف في موارد كثيرة منهما، لا فرق بين مكي أو مدني، وسواء على المجتهد أن يتعرفها من آيات الأحكام، أم من غير آيات الأحكام؛ كالمواعظ، ومآخذ العبر، وقد تكون نتيجة استقراء جانب من القرآن، وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله؛ كما انتزعوا قاعدة:"ارتكاب أخف الضررين" من مثل قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79}. وانتزعوا قاعدة سد الذراع من مثل قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
والمقدار الذي يفيد القطع بأن هذا المعنى مقصود للشارع، فيجعل قاعدة، موكولٌ إلى أنظار المجتهدين الراسخين في العلم بروح التشريع، لكثرة تدبرهم في النصوص، وترددهم على ما فصل من أحكام.
وبالوقوف على روح التشريع، ساغ لهم أن يقرروا معاني بعض الآيات والأحاديث على حسب ما تقتضيه هذه القواعدة كما قيد الإمام مالك رضي الله عنه حديث:"اليمين على من أنكر" بشرط الخلطة بين المدّعي والمدّعى عليه، وهو في الحقيقة إنما قيد نص الشارع بقاعدة مأخوذة من نصوصه، وهي